الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5268 14 - حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن ابن عمر، عن عمر قال: الخمر تصنع من خمسة: من الزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق آخر أخرجه عن حفص بن عمر بن الحارث أبو عمر الحوضي النمري الأزدي، عن شعبة بن الحجاج، عن [ ص: 173 ] عبد الله بن أبي السفر -ضد الحضر- واسمه سعيد، أبو محمد الهمداني الكوفي، يروي عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، ومر الكلام في باب الخمر من العنب في حديث عمر مثل هذا، لكن هناك العنب أحد الخمسة، وهنا الزبيب، وقد قلنا غير مرة: إن التنصيص على عدد معين لا ينافي ما عداه، وإن إطلاق الخمر على غير ماء العنب المشتد ليس بطريق الحقيقة، وإنما هو من باب التشبيه.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو معروف عند أهل اللغة وأهل العلم.

                                                                                                                                                                                  قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "كل مسكر خمر" وقوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" ولأنه من مخامرة العقل، وذلك موجود في كل مسكر، ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني.

                                                                                                                                                                                  قال: وإنما سمي الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل. قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصا به كما في النجم، فإنه مشتق من الظهور، ثم هو خاص بالثريا. انتهى.

                                                                                                                                                                                  ثم قال هذا القائل: والجواب عن الحجة الأولى، وأطال الكلام به كما نذكره، ونرد عليه، ثم قال: وعن الثانية، وعن الثالثة، كذلك نذكرهما ونرد عليه.

                                                                                                                                                                                  قلت: أما أولا فذكر صاحب الهداية عشرة أوجه في ثبوت ما ادعاه من إطلاق اسم الخمر على عصير العنب إذا غلا واشتد، هو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم، وبين وجه كل وجه من العشرة، وهذا القائل المعترض اعترض على ثلاثة أوجه منها، وسكت عن الباقي؛ لعدم الإدراك الكامل والفهم الناقص.

                                                                                                                                                                                  بيان الوجه الأول من ذلك: هو قوله: والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرا، وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: سبحان الله! كيف يكون هذا الكلام جوابا عن الحجة الأولى، وبيان بطلانه من وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: قوله: ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة.. إلى آخره - دعوى مجردة، فمن هو ذلك البعض من أهل اللغة؟! بل المنقول من أهل اللغة أن الخمر من العنب، والمتخذ من غيره لا يسمى خمرا إلا مجازا، وقد نفى أبو الأسود الدؤلي الذي هو من أعيان أهل اللغة اسم الخمر عن الطلاء بقوله:


                                                                                                                                                                                  دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مغنيا لمكانها



                                                                                                                                                                                  وجعل الطلاء أخا للخمر، وأخو الشيء غيره، والطلاء كل ما خثر من الأشربة، وهو المثلث، ويقال: المنصف، وكل ذلك بالطبخ من أي عصير كان.

                                                                                                                                                                                  الثاني: استدل بقول الخطابي، وهو ليس من أهل اللغة، وإنما هو ناقل.

                                                                                                                                                                                  والثالث: هو أن قوله: إن الصحابة الذين سموا.. إلى آخره - لا ينكره أحد، ولا ينكر أحد أيضا كونهم فصحاء وأعيان أهل اللغة، ولكن ما أطلقوا على العصير من غير العنب خمرا بطريق الوضع اللغوي بل بطريق التسمية، والتسمية غير الوضع بلا خلاف، ووجه تسميتهم من باب التشبيه والمجاز.

                                                                                                                                                                                  ومن جملة ما قال في الجواب عن الحجة الأولى: وقال أهل المدينة، وسائر الحجازيين، وأهل الحديث كلهم: "كل مسكر خمر" فنقول: نحن لا ننازع في هذا; لأن معناه: كل شراب أسكر فحكمه حكم الخمر في الحرمة وبقية الأحكام، فلا يدل هذا على إطلاق الخمر على المتخذ من غير العنب خمرا على الحقيقة، بل بطريق التشبيه، والتشبيه لا عموم له.

                                                                                                                                                                                  وقال أيضا: ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة، وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرا يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلنا: إنما أراقوا المتخذ من التمر والرطب; لأنه كان مسكرا حينئذ، فأطلقوا عليه الخمر من جهة إسكاره، والدليل على أنه كان مسكرا حين بلغهم الخبر بتحريم الخمر: ما رواه أبو عاصم بلفظ: "حين مالت رؤوسهم، فدخل داخل، فقال: إن الخمر حرمت، قال: فما خرج منا خارج، ولا دخل داخل حتى كسرنا القلال، وأهرقنا الشراب.. " الحديث. فلو كان غير مسكر لما فعلوا ذلك، وروى الطحاوي من حديث أنس قال: "كان أبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وأبي بن كعب عند أبي طلحة، وأنا أسقيهم من شراب حتى كاد يأخذ فيهم".. الحديث. وفي آخره: "وإنها البسر والتمر، وإنها لخمرنا يومئذ" ورواه أحمد أيضا، وفيه أيضا: "حتى كاد الشراب أن يأخذ فيهم" وفي رواية للطحاوي: حتى أسرعت فيهم. فهذا ينادي بأعلى صوته أن مشروبهم يومئذ كان مسكرا، ولما بلغهم الخبر بتحريم [ ص: 174 ] الخمر أبطلوا الشراب وأراقوا ما بقي منه.

                                                                                                                                                                                  وبيان الوجه الثاني من ذلك هو قوله: (وعن الثانية) يعني الجواب عن الحجة الثانية ما تقدم من أن اختلاف المشتركين في الحكم في الغلظ لا يلزم منه افتراقهما في التسمية كالزنا مثلا، فإنه يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرما له، وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة اهـ.

                                                                                                                                                                                  قلنا: سبحان الله! ما أبعد هذا الجواب بشيء، ونحن قائلون به، وذلك أن الاشتراك في الحكم في الغلظ لا يستلزم افتراقهما في التسمية عند وجود السكر في العصير المتخذ من غير العنب، فمن قال: إن العصير المتخذ من غير العنب قبل السكر مشترك مع عصير العنب المشتد في الحكم، وكيف يكون ذلك والعصير المتخذ من غير العنب قبل السكر لا يسمى حراما، فضلا عن أن يسمى خمرا بخلاف العصير من العنب المشتد، فإنه حرام أسكر أو لم يسكر، فأنى يشتركان في الحكم، والزنا حرام في كل حالة مطلقا من غير تفصيل.

                                                                                                                                                                                  وبيان الوجه الثالث من ذلك هو قوله: (وعن الثالثة) أي: الجواب عن الحجة الثالثة ثبوت النقل، عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو، كيف وهو يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر الصحابة: الخمر ما خامر العقل، وكان مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة، فيحمل قول عمر على المجاز اهـ.

                                                                                                                                                                                  قلنا: قول صاحب الهداية: "فإنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل" غير معارض لكلام عمر رضي الله تعالى عنه، فإن مراده من حيث الاشتقاق; لأن الخمر ثلاثي، فكيف يشتق من المخامرة الذي هو مزيد الثلاثي، وإنكاره من هذه الجهة على أنه قال بعد ذلك على أن ما ذكرتم لا ينافي كون اسم الخمر خاصا في النيء من ماء العنب إذا أسكر، فإن النجم مشتق من الظهور، وهو اسم خاص للنجم المعروف، وهو الثريا، وليس هو باسم لكل ما ظهر، وهذا كثير النظائر، نحو القارورة، فإنها مشتقة من القرار، وليست اسما لكل ما يقرر فيه شيء، ولم أر أحدا من شراح الهداية حرر هذا الموضع كما ينبغي، وقد بسطنا الكلام فيه بما فيه الكفاية، ولله الحمد.

                                                                                                                                                                                  وملخص الكلام بما فيه الرد على كل من رد على أصحابنا فيما قالوه من إطلاق الخمر حقيقة على النيء من ماء العنب المشتد، وعلى غيره مجازا وتشبيها. منهم: أبو عمر، والقرطبي، والخطابي، والبيهقي، وغيرهم بما رواه الطحاوي، عن ابن عباس بإسناد صحيح قال: حرمت الخمرة بعينها والمسكر من كل شراب وروي أيضا من حديث ابن شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى أن أباه بعثه إلى أنس رضي الله تعالى عنه في حاجة، فأبصر عنده طلاء شديدا، والطلاء مما يسكر كثيره، فلم يكن عند أنس ذلك خمرا، وإن كثيره يسكر، فثبت بذلك أن الخمر لم يكن عند أنس من كل شراب يسكر، ولكنها من خاص من الأشربة، وهذا يدل على أن أنسا كان يشرب الطلاء، ومع هذا قال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يتخذ من العنب مجاز في غيره.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: وخالفه ابن الرفعة، فنقل عن المزني، وابن أبي هريرة، وأكثر الأصحاب: أن الجميع يسمى خمرا حقيقة.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا القائل لم يدر الفرق بين الرافعي وابن الرفعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية