[ ص: 90 ] قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي : لما قالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون رد عليهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها يقول : لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولكن حق القول مني الآية ; ذكره
ابن المبارك في ( رقائقه ) في حديث طويل . وقد ذكرناه في ( التذكرة ) .
النحاس :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها في معناه قولان : أحدهما : أنه في الدنيا . والآخر : أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة ; أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي حق القول مني لأعذبن من عصاني بنار جهنم . وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا ; كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب . وتأويل
المعتزلة : ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة ، لكن لا يحسن منه فعله ; لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره . وقالت
الإمامية في تأويلها : إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا ، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم ، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها ; قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله . وفي جواز ذلك منع ; لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان . وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين . وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال : فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه ، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب
الجبرية ، وهو مذهب رذل عندنا وعندكم ، فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختيارا لا جبرا ; قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=28لمن شاء منكم أن يستقيم ، وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=29فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . ثم عقب هاتين الآيتين بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وما تشاءون إلا أن يشاء الله . فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم ، ونفى أن يشاءوا إلا أن يشاء الله ; ولهذا فرطت المجبرة لما رأوا
[ ص: 91 ] أن هدايتهم إلى الإيمان معلق بمشيئة الله تعالى ، فقالوا : الخلق مجبورون في طاعتهم كلها ، التفاتا إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وما تشاءون إلا أن يشاء الله . وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معلق بمشيئة العباد ، فقالوا : الخلق خالقون لأفعالهم ، التفاتا منهم إلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=28لمن شاء منكم أن يستقيم . ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد ; وهو مذهب بين مذهبي
المجبرة والقدرية ; وخير الأمور أوساطها . وذلك أن أهل الحق قالوا : نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه ، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته ، وبين حركة الاختيار إذا حرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش ; ومن لا يفرق بين الحركتين : حركة الارتعاش وحركة الاختيار ، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته - فهو معتوه في عقله ومختل في حسه ، وخارج من حزب العقلاء . وهذا هو الحق المبين ، وهو طريق بين طريقي الإفراط والتفريط .
كلا طرفي قصد الأمور ذميم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا ، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز ، وهو قوله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت .
[ ص: 90 ] قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14980مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : لَمَّا قَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ رَدَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا يَقُولُ : لَوْ شِئْتُ لَهَدَيْتُ النَّاسَ جَمِيعًا فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي الْآيَةَ ; ذَكَرَهُ
ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي ( رَقَائِقِهِ ) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي ( التَّذْكِرَةِ ) .
النَّحَّاسُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا . وَالْآخَرُ : أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ ; أَيْ لَوْ شِئْنَا لَرَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَالْمِحْنَةِ كَمَا سَأَلُوا
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَيْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأُعَذِّبَنَّ مَنْ عَصَانِي بِنَارِ جَهَنَّمَ . وَعَلِمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ لَعَادُوا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ .
وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ مَعْنَاهَا خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقَلْبِ . وَتَأْوِيلُ
الْمُعْتَزِلَةِ : وَلَوْ شِئْنَا لَأَكْرَهْنَاهُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ بِإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْهَائِلَةِ ، لَكِنْ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ فِعْلُهُ ; لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْغَرَضَ الْمُجْرَى بِالتَّكْلِيفِ إِلَيْهِ وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ بِاخْتِيَارِهِ . وَقَالَتِ
الْإِمَامِيَّةُ فِي تَأْوِيلِهَا : إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هُدَاهَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا ، لَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا هِدَايَةُ الْكُلِّ إِلَيْهَا ; قَالُوا : بَلِ الْوَاجِبُ هِدَايَةُ الْمَعْصُومِينَ ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ ذَنْبٌ فَجَائِزٌ هِدَايَتُهُ إِلَى النَّارِ جَزَاءً عَلَى أَفْعَالِهِ . وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ مَنْعٌ ; لِقَطْعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُدَاهَا إِلَى الْإِيمَانِ . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ . وَأَقْرَبُ مَا لَهُمْ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : فَقَدْ بَطَلَ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالْإِجْبَارِ وَالْإِكْرَاهِ ، فَصَارَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى مَذْهَبِ
الْجَبْرِيَّةِ ، وَهُوَ مَذْهَبٌ رَذْلٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ الْمُهْتَدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هَدَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَصِحَّ التَّكْلِيفُ فَمَنْ شَاءَ آمَنَ وَأَطَاعَ اخْتِيَارًا لَا جَبْرًا ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=28لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=29فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا . ثُمَّ عَقَّبَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ . فَوَقَعَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَشِيئَتِهِمْ ، وَنَفَى أَنْ يَشَاءُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ; وَلِهَذَا فَرَّطَتِ الْمُجْبِرَةُ لَمَّا رَأَوْا
[ ص: 91 ] أَنَّ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مُعَلَّقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَالُوا : الْخَلْقُ مَجْبُورُونَ فِي طَاعَتِهِمْ كُلِّهَا ، الْتِفَاتًا إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ . وَفَرَّطَتِ الْقَدَرِيَّةِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مُعَلَّقٌ بِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ ، فَقَالُوا : الْخَلْقُ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمُ ، الْتِفَاتًا مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=28لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَذْهَبُنَا هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الِاعْتِقَادِ ; وَهُوَ مَذْهَبٌ بَيْنَ مَذْهَبَيِ
الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ ; وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا . وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ قَالُوا : نَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ مَا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ وَبَيْنَ مَا اخْتَرْنَاهُ ، وَهُوَ أَنَّا نُدْرِكُ تَفْرِقَةً بَيْنَ حَرَكَةِ الِارْتِعَاشِ الْوَاقِعَةِ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَا مَقْرُونَةً بِقُدْرَتِهِ ، وَبَيْنَ حَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ إِذَا حَرَّكَ يَدَهُ حَرَكَةً مُمَاثِلَةً لِحَرَكَةِ الِارْتِعَاشِ ; وَمَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَرَكَتَيْنِ : حَرَكَةِ الِارْتِعَاشِ وَحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَهُمَا مَوْجُودَتَانِ فِي ذَاتِهِ وَمَحْسُوسَتَانِ فِي يَدِهِ بِمُشَاهَدَتِهِ وَإِدْرَاكِ حَاسَّتِهِ - فَهُوَ مَعْتُوهٌ فِي عَقْلِهِ وَمُخْتَلٌّ فِي حِسِّهِ ، وَخَارِجٌ مِنْ حِزْبِ الْعُقَلَاءِ . وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، وَهُوَ طَرِيقٌ بَيْنَ طَرِيقَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ .
كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصَدَ
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ اخْتَارَ أَهْلُ النَّظَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ سَمَّوْا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَسْبًا ، وَأَخَذُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .