الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قتل أمير الجيوش

في هذه السنة ، في الثالث والعشرين من رمضان ، قتل أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي ، وهو صاحب الأمر والحكم بمصر ، وكان ركب إلى خزانة السلاح ليفرقه على الأجناد ، على جاري العادة في الأعياد ، فسار معه عالم كثير من الرجالة والخيالة ، فتأذى بالغبار ، فأمر بالبعد عنه ، وسار منفردا ، معه رجلان ، فصادفه رجلان بسوق الصياقلة ، فضرباه بالسكاكين فجرحاه ، وجاء الثالث من ورائه ، فضربه بسكين في خاصرته ، فسقط عن دابته ، ورجع أصحابه فقتلوا الثلاثة ، وحملوه إلى دار الأفضل ، فدخل عليه الخليفة ، وتوجع له ، وسأل عن الأموال ، فقال : أما الظاهر منها فأبو الحسن بن أسامة الكاتب يعرفه ، وكان من أهل حلب ، وتولى أبوه قضاء القاهرة ، وأما الباطن فابن البطائحي يعرفه ، فقالا : صدق .

فلما توفي الأفضل نقل من أمواله ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وبقي الخليفة في داره نحو أربعين يوما ، والكاتب بين يديه ، والدواب تحمل وتنقل ليلا ونهارا ، ووجد له من الأعلاق النفيسة ، والأشياء الغريبة القليلة الوجود ، ما لا يوجد مثله لغيره ، واعتقل أولاده ، وكان عمره سبعا وخمسين سنة وكانت ولايته بعد أبيه ثمانيا وعشرين سنة ، ومنها : آخر أيام المستنصر ، وجميع أيام المستعلي ، إلى هذه السنة من أيام الآمر .

وكان الإسماعيلية يكرهونه لأسباب منها : تضييقه على إمامهم ، وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم ، ومنها : ترك معارضة أهل السنة في اعتقادهم ، والنهي عن معارضتهم ، وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها ، فكثر الغرباء ببلاد مصر .

[ ص: 670 ] وكان حسن السيرة ، عادلا ، حكي أنه لما قتل ، وظهر الظلم بعده ، اجتمع جماعة واستغاثوا بالخليفة ، وكان من جملة قولهم : إنهم لعنوا الأفضل ، فسألهم عن سبب لعنهم إياه ، فقالوا : إنه عدل ، وأحسن السيرة ، ففارقنا بلادنا وأوطاننا ، وقصدنا بلده لعدله ، فقد أصابنا بعده هذا الظلم ، فهو كان سبب ظلمنا .

فأحسن الخليفة إليهم ، وأمر بالإحسان إلى الناس .

ومنها أن صاحبه الآمر بأحكام الله ، صاحب مصر ، وضع منه ، وسبب ذلك ما ذكرناه قبل ، ففسد الأمر بينهما ، فأراد الآمر أن يضع عليه من يقتله إذا دخل عليه قصره للسلام ، أو في أيام الأعياد ، فمنعه من ذلك ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد ، وهو الذي ولي الأمر بعده بمصر ، وقال له : في هذا الفعل شناعة وسوء سمعة ، لأنه قد خدم دولتنا هو وأبوه خمسين سنة ، ولم يعلم الناس منهما إلا النصح لنا ، والمحبة لدولتنا ، وقد سار ذلك في أقطار البلاد فلا يجوز أن يظهر منا هذه المكافأة الشنيعة ، ومع هذا فلا بد وأن نقيم غيره مكانه ونعتمد عليه في منصبه ، متمكن مثله ، أو ما يقاربه ، فيخاف أن نفعل به مثل فعلنا بهذا ، فيحذر من الدخول إلينا خوفا على نفسه ، وإن دخل علينا كان خائفا مستعدا للامتناع ، وفي هذا الفعل منهم ما يسقط المنزلة ، والرأي أن تراسل أبا عبد الله بن البطائحي ، فإنه الغالب على أمر الأفضل ، والمطلع على سره ، وتعده أن توليه منصبه ، وتطلب منه أن يدبر الأمر في قتله لمن يقاتله ، إذا ركب ، فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه ، وأظهرنا الطلب بدمه ، والحزن عليه ، فنبلغ غرضنا ، ويزول عنا قبح الأحدوثة . ففعلوا ذلك فقتل كما ذكرناه .

ولما قتل ولي بعده أبو عبد الله بن البطائحي الأمر ، ولقب المأمون ، وتحكم في الدولة ، فبقي كذلك حاكما في البلاد إلى سنة تسع عشرة وخمسمائة ، فصلب كما نذكره إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية