الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الثانية

[ النوم ]

اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب : فقوم رأوا أنه حدث ، فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء ، وقوم رأوا أنه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث على مذهب من لا يعتبر الشك ، وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك حتى إن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله ( أعني : هل يكون منه حدث أم لا ؟ ) وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل ، فأوجبوا في الكثير المستثقل الوضوء دون القليل ، وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور .

ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض ، وكذلك خروج الحدث ، اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال مالك : من نام مضطجعا أو ساجدا فعليه الوضوء ، طويلا كان النوم أو قصيرا . ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به . واختلف القول في مذهبه في الراكع ، فمرة قال : حكمه حكم القائم ، ومرة قال : حكمه حكم الساجد .

وأما الشافعي فقال : على كل نائم كيفما نام الوضوء إلا من نام جالسا ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا وضوء إلا على من نام مضطجعا .

وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلاف الآثار الواردة في ذلك ، وذلك أن ههنا أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا ، كحديث ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل إلى ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ، ثم صلى ولم يتوضأ " وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه فيسب نفسه " وما روي أيضا " أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رءوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضئون " وكلها آثار ثابتة ، وههنا أيضا أحاديث يوجب ظاهرها أن النوم حدث ، وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال ، وذلك أنه قال : " كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم ، ولا ننزعها إلا من جنابة " فسوى بين البول والغائط والنوم ، صححه الترمذي .

ومنها حديث أبي هريرة المتقدم ، وهو قوله - عليه [ ص: 35 ] الصلاة والسلام - : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه " فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره ، وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء عند من كان عنده المعنى في قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) أي إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف . فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ذهب العلماء فيها مذهبين : مذهب الترجيح ، ومذهب الجمع ; فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلا على ظاهر الأحاديث التي تسقطه وإما أوجبه من قليله وكثيره على ظاهر الأحاديث التي توجبه أيضا ( أعني : على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة ، أو من الأحاديث المسقطة ) ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير ، والمسقطة للوضوء على القليل ، وهو كما قلنا مذهب الجمهور ، والجمع أولى من الترجيح ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين .

وأما الشافعي فإنما حملها على أن استثنى من هيئات النائم الجلوس فقط ; لأنه قد صح ذلك عن الصحابة ( أعني أنهم كانوا ينامون جلوسا ولا يتوضؤون ويصلون ) .

وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم والاضطجاع فقط ; لأن ذلك ورد في حديث مرفوع ، وهو أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " إنما الوضوء على من نام مضطجعا " والرواية بذلك ثابتة عن عمر .

وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالبا سببا للحدث ، راعى فيه ثلاثة أشياء : الاستثقال أو الطول أو الهيئة ، فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالبا لا الطول ولا الاستثقال ، واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية