الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها

لما كثر جمع الفرنج بصور على ما ذكرناه من أن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان ، وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم ، اجتمع بها منهم عالم كثير لا يعد ولا يحصى ، ومن الأموال ما لا يفنى على كثرة الإنفاق في السنين الكثيرة .

ثم إن الرهبان والقسوس وخلقا كثيرا من مشهوريهم ، وفرسانهم لبسوا السواد ، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم ، وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس ، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعا ، ويستنجدون أهلها ، ويستجيرون بهم ، ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس .

وصوروا المسيح - عليه السلام - وجعلوه مع صورة عربي يضربه ، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح - عليه السلام - وقالوا لهم : هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله .

فعظم ذلك على الفرنج فحشروا وحشدوا حتى النساء ، فإنهم كان معهم على عكا عدة من النساء يبارزن الأقران على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه أو يعطيهم مالا على قدر حالهم . فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء .

ولقد حدثني بعض المسلمين المقيمين بحصن الأكراد ، وهو من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديما ، وكان هذا الرجل قد ندم على ما كان منه [ من ] موافقة الفرنج في الغارة على بلاد الإسلام ، والقتال معهم ، والسعي معهم ، وكان سبب اجتماعي به ما أذكره سنة تسعين وخمسمائة ، إن شاء الله تعالى .

قال لي هذا الرجل إنه دخل مع جماعة من الفرنج من حصن الأكراد إلى البلاد البحرية التي للفرنج والروم في أربع شوان ، يستنجدون قال : فانتهى بنا التطواف إلى رومية الكبرى ، فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني نقرة .

وحدثني بعض الأسرى منهم أنه له والدة ليس لها ولد سواه ، ولا يملكون من [ ص: 70 ] الدنيا غير بيت باعته وجهزته بثمنه ، وسيرته لاستنقاذ بيت واحد فأخذ أسيرا .

وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حده ، فخرجوا على الصعب والذلول ، برا وبحرا ، من كل فج عميق ، ولولا [ أن ] الله تعالى لطف بالمسلمين ، وأهلك ملك الألمان لما خرج على ما نذكره عند خروجه إلى الشام ، وإلا كان يقال : إن الشام ومصر كانتا للمسلمين .

فهذا كان سبب خروجهم فلما اجتمعوا بصور تموج بعضهم في بعض ، ومعهم الأموال العظيمة ، والبحر يمدهم بالأقوات والذخائر ، والعدد والرجال من بلادهم . فضاقت عليهم صور باطنها وظاهرها فأرادوا قصد صيدا وكان ما ذكرناه .

فعادوا واتفقوا على قصد عكا ومحاصرتها ومصابرتها ، فساروا إليها بفارسهم وراجلهم ، وقضهم وقضيضهم ، ولزموا البحر في مسيرهم لا يفارقونه في السهل والوعر ، والضيق والسعة ، ومراكبهم تسير مقابلهم في البحر فيها سلاحهم وذخائرهم ، ولتكون عدة لهم ، إن جاءهم ما لا قبل لهم به ركبوا فيها وعادوا .

وكان رحيلهم ثامن رجب ، ونزولهم على عكا في منتصفه ، ولما كانوا سائرين كان يزك المسلمين يتخطفونهم ، ويأخذون المنفرد منهم .

ولما رحلوا جاء الخبر إلى صلاح الدين برحيلهم ، فسار حتى قاربهم ، ثم جمع أمراءه واستشارهم : هل يكون المسير محاذاة الفرنج ومقاتلتهم وهم سائرون أو يكون في غير الطريق التي سلكوها ؟ فقالوا : لا حاجة بنا إلى احتمال المشقة في مسايرتهم ، فإن الطريق وعر وضيق ولا يتهيأ لنا ما نريده منهم ، والرأي أننا نسير في الطريق المهيع ، ونجتمع عليهم عند عكا ، فنفرقهم ونمزقهم .

فعلم ميلهم إلى الراحة المعجلة ، فوافقهم ، وكان رأيه مسايرتهم ومقاتلتهم وهم سائرون ، وقال : إن الفرنج إذا نزلوا لصقوا بالأرض ، فلا يتهيأ لنا إزعاجهم ، ولا نيل الغرض منهم ، والرأي قتالهم قبل الوصول إلى عكا ، فخالفوه فتبعهم ، وساروا على طريق كفر كنا فسبقهم الفرنج .

وكان صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم ، ويناوشونهم القتال ، ويتخطفونهم ، ولم يقدم الفرنج عليهم مع قلتهم ، فلو أن العساكر اتبعت رأي صلاح الدين في مسايرتهم ومقاتلتهم قبل نزولهم على عكا لكان بلغ غرضه وصدهم عنها ، ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه .

ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى [ ص: 71 ] البحر ، من الجانب الآخر ، ولم يبق للمسلمين إليها طريق ، فنزل صلاح الدين عليهم وضرب خيمته على تل كيسان ، وامتدت ميمنته إلى تل العياضية وميسرته إلى النهر الجاري ، ونزلت الأثقال بصفورية .

وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر ، فأتاه عسكر الموصل ، وديار بكر وسنجار وغيرها من بلاد الجزيرة ، وأتاه تقي الدين ابن أخيه ، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين ، وهو صاحب حران والرها .

وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر ، وكان بين الفريقين مدة مقامهم على عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة ، منها اليوم المشهور ، ومنها ما هو دون ذلك ، وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك ، ولأن ما عداها كان قتالا يسيرا من بعضهم مع بعض ، فلا حاجة إلى ذكره .

ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم ، ولا إلى عكا حتى انسلخ رجب ثم قاتلهم مستهل شعبان فلم ينل منهم ما يريد وبات الناس على تعبئة . فلما كان الغد باكرهم القتال بحده وحديده ، واستدار عليهم من سائر جهاتهم من بكرة إلى الظهر ، وصبر الفريقان صبرا حار له من رآه .

فلما كان وقت الظهر حمل عليهم تقي الدين حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم ، فأزاحهم عن مواقفهم يركب بعضهم بعضا لا يلوي أخ على أخ ، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم ، واجتمعوا بهم ، واحتموا بهم ، وأخلوا نصف البلد ، وملك تقي الدين مكانهم ، والتصق بالبلد ، وصار ما أخلوه بيده

ودخل المسلمون البلد وخرجوا منه واتصلت الطرق وزال الحصر عمن فيه ، وأدخل صلاح الدين إليه من أراد من الرجال ، وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك ولو أن المسلمين لزموا قتالهم إلى الليل لبلغوا ما أرادوه ، فإن للصدمة الأولى روعة ، لكنهم لما نالوا منهم هذا القدر أخلدوا إلى الراحة ، وتركوا القتال وقالوا : نباكرهم غدا ، ونقطع دابرهم .

وكان في جملة من أدخله صلاح الدين إلى عكا من جملة الأمراء حسام الدين أبو الهيجاء السمين ، وهو من أكابر أمراء عسكره ، وهو من الأكراد الحكمية من بلد إربل ، وقتل من الفرنج هذا اليوم جماعة كبيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية