الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك غياث الدين وأخيه ما كان لخوارزم شاه بخراسان

قد ذكرنا مسير محمد بن خرميل من الطالقان . واستيلاءه على مرو الروذ وسؤال جقر التركي نائب علاء الدين محمد خوارزم شاه بمرو أن يكون في جملة عسكر غياث الدين ، ولما وصل كتاب ابن خرميل إلى غياث الدين في معنى جقر ، علم أن هذا إنما دعاه إلى الانتماء إليهم ضعف صاحبه ، فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يستدعيه إلى خراسان ، فسار من غزنة في عساكره وجنوده وعدته وما يحتاج إليه .

وكان بهراة الأمير عمر بن محمد المرغني نائبا عن غياث الدين ، وكان يكره خروج غياث الدين إلى خراسان ، فأحضره غياث الدين واستشاره ، فأشار بالكف عن قصدها ، وترك المسير إليها ، فأنكر عليه ذلك ، وأراد إبعاده عنه ، ثم تركه ، ووصل شهاب الدين في عساكره وعساكر سجستان وغيرها في جمادى الأولى من هذه السنة ، فلما وصلوا إلى ميمنة ، وهي قرية بين الطالقان وكرزبان ، وصل إلى شهاب الدين كتاب جقر مستحفظ مرو ، يطلبه ليسلمها إليه ، فاستأذن أخاه غياث الدين فأذن له ، فسار إليها ، فخرج أهلها مع العسكر الخوارزمي وقاتلوه ، فأمر أصحابه بالحملة عليهم والجد في قتالهم ، فحملوا عليهم ، فأدخلوهم البلد ، وزحفوا بالفيلة إلى أن قاربوا السور ، فطلب أهل البلد الأمان ، فأمنهم وكف الناس عن التعرض إليهم ، وخرج [ ص: 177 ] جقر إلى شهاب الدين فوعده الجميل .

ثم حضر غياث الدين إلى مرو بعد فتحها ، فأخذ جقر وسيره إلى هراة مكرما ، وسلم مرو إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش ، وقد ذكرنا هربه من عمه خوارزم شاه محمد بن تكش إلى غياث الدين ، ووصاه بالإحسان إلى أهلها .

ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس ، فأخذها صلحا ، وسلمها إلى الأمير زنكي بن مسعود ، وهو من أولاد عمه وأقطعه معها نسا وأبيورد ، ثم سار بالعساكر إلى طوس ، فأراد الأمير الذي بها أن يمتنع فيها ولا يسلمها ، فأغلق باب البلاد ثلاثة أيام ، فبلغ الخبز ثلاثة أمناء بدينار ركني ، فضج أهل البلد عليه ، فأرسل إلى غياث الدين يطلب الأمان ، فأمنه ، فخرج إليه ، فخلع عليه وسيره إلى هراة ، ولما ملكها أرسل إلى علي شاه بن خوارزم شاه تكش ، وهو نائب أخيه علاء الدين محمد بنيسابور ، يأمره بمفارقة البلد ، ويحذره إن أقام سطوة أخيه شهاب الدين . وكان مع علي شاه عسكر من خوارزم شاه ، فاتفقوا على الامتناع من تسليم البلد ، وحصنوه ، وخربوا ما بظاهره من العمارة ، وقطعوا الأشجار . وسار غياث الدين إلى نيسابور ، فوصل إليها أوائل رجب ، وتقدم عسكر أخيه شهاب الدين إلى القتال ، فلما رأى غياث الدين ذلك قال لولده محمود : قد سبقنا عسكر غزنة بفتح مرو ، وهم يريدون أن يفتحوا نيسابور ، فيحصلون بالاسم ، فاحمل إلى البلد . ولا ترجع حتى تصل إلى السور . فحمل ، وحمل معه وجوه الغورية ، فلم يردهم أحد من السور ، حتى أصعدوا علم غياث الدين إليه ، فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه : اقصدوا بنا هذه الناحية واصعدوا السور من هاهنا ، وأشار إلى مكان فيه ، فسقط السور منهدما ، فضج الناس بالتكبير وذهل الخوارزميون وأهل البلد ، ودخل الغورية البلد ، وملكوه عنوة ونهبوه ساعة من نهار ، فبلغ الخبر إلى غياث الدين فأمر بالنداء : من نهب مالا أو آذى أحدا فدمه حلال ، فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره .

ولقد حدثني بعض أصدقائنا من التجار - وكان بنيسابور في هذه الحادثة - : نهب من متاعي شيء من جملته سكر ، فلما سمع العسكر النداء ردوا جميع ما أخذوا مني ، وبقي لي بساط وشيء من السكر ، فرأيت السكر مع جماعة ، فطلبته منهم ، فقالوا : أما [ ص: 178 ] السكر فأكلناه فنسألك ألا يسمع أحد ، وإن أردت ثمنه أعطيناك ، فقلت : أنتم في حل منه ، ولم يكن البساط مع أولئك ، ( قال : فمشيت إلى باب البلد مع النظارة ، فرأيت البساط ) الذي لي قد ألقي عند باب البلد لم يجسر أحد على أن يأخذه ، فأخذته وقلت : هذا لي فطلبوا مني من يشهد به ، فأحضرت من شهد لي وأخذته .

ثم إن الخوارزميين تحصنوا بالجامع ، فأخرجهم أهل البلد ، فأخذهم الغورية ونهبوا مالهم ، وأخذ علي شاه بن خوارزم شاه ، وأحضر عند غياث الدين راجلا ، فأنكر ذلك على من أحضره ، وعظم الأمر فيه ، وحضرت داية كانت لعلي شاه ، وقالت لغياث الدين : أهكذا يفعل بأولاد الملوك ؟ فقال : لا ! بل هكذا ، وأخذ بيده ، وأقعده معه على السرير ، وطيب نفسه ، وسير جماعة الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار ، وأحضر غياث الدين ابن عمه ، وصهره على ابنته ، ضياء الدين محمد بن أبي علي الغوري ، وولاه حرب خراسان وخراجها ، ولقبه علاء الدين ، وجعل معه وجوه الغورية ، ورحل إلى هراة ، وسلم عليا شاه إلى أخيه شهاب الدين ، وأحسن إلى أهل نيسابور ، وفرق فيهم مالا كثيرا .

ثم رحل بعده شهاب الدين إلى ناحية قهستان ، فوصل إلى قرية ، فذكر له أن أهلها إسماعيلية ، فأمر بقتل المقاتلة ، ونهب الأموال ، وسبي الذراري ، وخرب القرية فجعلها خاوية على عروشها ، ثم سار إلى كناباد وهي من المدن التي جميع أهلها إسماعيلية ، فنزل عليها وحصرها ، فأرسل صاحب قهستان إلى غياث الدين يشكو أخاه شهاب الدين ، ويقول : بيننا عهد ، فما الذي بدا منا حتى تحاصر بلدي ؟

واشتد خوف الإسماعيلية الذين بالمدينة من شهاب الدين ، فطلبوا الأمان ليخرجوا منها ، فأمنهم ، وأخرجهم وملك المدينة وسلمها إلى بعض الغورية ، فأقام بها الصلاة ، وشعار الإسلام ، ورحل شهاب الدين فنزل على حصن آخر للإسماعيلية ، فوصل إليه رسول أخيه غياث الدين ، فقال الرسول : معي تقدم من السلطان ، فلا يجري حرد إن فعلته ؟ فقال : لا . فقال : إنه يقول لك ما لك ولرعيتي ، ارحل ، قال : لا أرحل ، قال : إذن أفعل ما أمرني قال : افعل ، فسل سيفه وقطع أطناب سرادق [ ص: 179 ] شهاب الدين ، وقال : ارحل بتقدم السلطان ، فرحل شهاب الدين والعسكر وهو كاره ، وسار إلى بلد الهند ، ولم يقم بغزنة غضبا لما فعله أخوه معه

التالي السابق


الخدمات العلمية