الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 176 ] الباب الأول

                                                                                                                في سبب وجوبه

                                                                                                                قال الله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) . ( آل عمران : 97 ) وترتيب الحكم على الوصف يدل على سببية ذلك الوصف لذلك الحكم ، كقولنا : زنا فرجم ، وسها فسجد ، وسرق فقطعت يده ، وقد رتب الله تعالى الوجوب بحرف ( على ) مع الاستطاعة فتكون سببا له ، وفي ( الجواهر ) : هي معتبرة بحال المكلف في صحته وماله وعادته وقدرته من غير تحديد ، وذلك يختلف ببعد المسافة وقربها ، وكثرة الجلد وقلته ، قال : فعلى المشهور : من قدر على المشي وجب عليه ، وإن عدم المركوب ، وكذلك الأعمى إذا وجد قائدا ، وكذلك من لا يجد إلا البحر إلا أن يكون غالبه العطب ، وقال ( ح ) : أو يعلم أنه يبطل الصلوات بالميد ، ولو كان لا يجد موضعا لسجوده للضيق إلا على ظهر أخيه ، قال مالك : لا يركب ، قال سند : ولمالك : لا يحج الرجل في البحر إلا مثل الأندلس الذين لا يجدون البر ، لقوله تعالى : ( يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ) . ( الحج : 27 ) ولم يذكر البحر . واختلف فيه قول ( ش ) ، وفي ( الجواهر ) : يختلف في إلزام المرأة الحج إذا عدمت المرأة الولي ووجدت رفقة مأمونين ، ومع الحاجة إلى البحر : قال سند : قال بعض العلماء : وإذا ذكر العشاء صلاها ; وإن فاته الحج فقدم الصلاة الواحدة على الحج ، وعلى قول أشهب في الجمعة : إذا تعذر عليه السجود سجد على ظهر أخيه يجزئه في البحر ولا يسقط عنه ، وخرج بعض المتأخرين العجز عن القيام على ذلك ، وليس كذلك ; لأن السجود ركن بدليل سقوط القيام في النوافل [ ص: 177 ] والمسبوق ، وفي ( الجواهر ) : يسقط إذا كان في الطريق عدو يطلب النفس ، أو من المال ما لا يتجدد ، أو يتجدد ويجحف ، وفي غير المجحف خلاف ، وقال أصحاب ( ح ) و ( ش ) : وإذا لم يمكنه السفر إلا بدفع شيء من ماله : لا يلزمه الحج ويجب على عادته السؤال إذا غلب على ظنه أنه يجد من يعطيه ، وقيل : لا يلزمه ; ولو لم يكن عنده إلا عروض التجارة وجب عليه أن يبيع منها ما يباع للدين ، وألزمه ابن القاسم بيع فرسه وترك أولاده بغير شيء بل للصدقة .

                                                                                                                وقال ابن حبيب والأئمة : الاستطاعة زاد ومركب ، لما في أبي داود : ( أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة ) وجوابه : أنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له . أو لعله حال مفهوم السائل ، وظاهر قوله تعالى : ( من استطاع إليه سبيلا ) يقتضي أن كل أحد على حسب حاله ، فإن الاستطاعة القدرة ، لقوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) . ( النساء : 129 ) ويؤكده أن من كان دون مسافة القصر لا تعتبر الراحلة في حقه إجماعا ، فلو كانت شرطا في العبادة لعمت ، وكذلك الزاد ، قد يستغني عنه من قربت داره ، فليسا مقصودين لأنفسهما بل للقدرة على الوصول ، وإذا تيسر المقصود بدون وسيلة معينة سقط اعتبارها .

                                                                                                                قال سند : قال مالك : ويقدم الحج على زواجه ووفاء دين أبيه ، ولو قلنا : أن الحج على التراخي ، خشية العوائق ، والحج قربة ، والنكاح شهوة ، وإن قلنا : على الفور وجب ، ودين الأب لا يجب ، إلا أن يخاف العنت فيتزوج ; لأن مفاسد الزنا أعظم ، والمرأة إذا قلنا : لزوجها منعها : قدمت الحج ، وإلا فلا ، وعلى التقديرين : لو تزوجت المرأة أو الرجل فالنكاح صحيح ، ولا يجوز زواج الأمة لتوفير المال للحج لوجود الطول ، ولو شق عليه ركوب القتب ، والمحمل مشقة لا يمكنه [ ص: 178 ] تحملها لم يلزمه ، وإذا كان عنده من تلزمه نفقته وقلنا : الحج على التراخي ، اعتبرنا قدرته على النفقة ذاهبا وراجعا ، وما ينفقه على مخلفيه في غيبته ، فإن كانت له حرفة يعملها في سفره اعتبرنا نفقة أهله فقط ، وإن قلنا : هو على الفور ، قدم على نفقة الزوجة ; لأن صبرها بيدها ، ونفقة بعض الأقارب المتأخرين مواساة تجب فيما يفضل عن الضرورة ، فإن وجد النفقة لذهابه فقط : قال بعض المتأخرين : يجب عليه إلا أن يخشى الضياع هناك ، فتراعي نفقته العود إلى أقرب المواضع إلى موضع يعيش فيه ، وإذا لم يكن له مال وبذل له لم يلزمه قبوله عند الجميع ; لأن أسباب الوجوب لا يجب على أحد تحصيلها ، وكذلك لو بذل له قرضا ; لأن الدين يمنع الحج ، وإن غصب مالا فحج به أجزأه حجه عند الجمهور ، وقال ابن حنبل : لا يجزئه ; لأنه سبب غير مشروع فلا يجزئ كأفعال الحج ، وهو على أصله في الصلاة في الدار المغصوبة ، وجوابه : أن النفقة أجنبية عن الحج بل هو كمن غرر بنفسه وحج فإنه يجزئه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية