الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر وملك الملك الأشرف سنجار

كواشى هذه من أحصن قلاع الموصل وأعلاها وأمنعها ، وكان الجند الذين بها ، لما رأوا ما فعل أهل العمادية وغيرها من التسليم إلى زنكي وأنهم قد تحكموا في القلاع ، لا يقدر أحد على الحكم عليهم ، أحبوا أن يكونوا كذلك ، فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم ، وامتنعوا بها ، وكانت رهائنهم بالموصل ، وهم يظهرون طاعة بدر الدين ، ويبطنون المخالفة ، فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة ، فلم يفعلوا ، وراسلوا زنكي [ ص: 320 ] في المجيء إليهم ، فسار إليهم وتسلم القلعة ، وأقام عندهم ، فروسل مظفر الدين يذكر بالأيمان القريبة العهد ويطلب منه إعادة كواشى ، فلم تقع الإجابة إلى ذلك ، فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف ، وهو بحلب ، يستنجده ، فسار وعبر الفرات إلى حران ، واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير .

وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم ، ويحسن لهم الخروج على الأشرف ، ويخوفهم منه ، إن خلا وجهه ، فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان ، صاحب بلاد الروم ، وصاحب آمد ، وحصن كيفا ، وصاحب ماردين ، واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس ، وخطبوا له في بلادهم ، ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشرف عند منبج لما قصد بلاد حلب ، فهو موغر الصدر عليه .

فاتفق أن كيكاوس مات في ذلك الوقت وكفي الأشرف وبدر الدين شره ، ولا جد إلا ما أقعص عنك الرجال ، وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف ، واستمالهم ، فأجابوه ، منهم : أحمد بن علي بن المشطوب ، الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل ، وهو أكبر أمير معه ، ووافقه غيره ، منهم : عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما ، وفارقوا الأشرف ، ونزلوا بدنيسر ، تحت ماردين ، ليجتمعوا مع صاحب آمد ، ويمنعوا الأشرف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين .

فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف ، وفارقهم ، واستقر الصلح بينهما ، وسلم إليه الأشرف مدينة حاني ، وجبل جور ، وضمن له أخذ دارا وتسليمها إليه ، فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم ، فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف ، وبقي ابن المشطوب وحده ، فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل ، فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند ، فاقتتلوا ، فانهزم ابن المشطوب ، وتفرق من معه من الجمع ، ومضى منهزما ، فاجتاز بطرف بلد سنجار ، فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي بن مودود بن زنكي عسكرا ، فهزموه وأخذوه أسيرا ، وحملوه إلى سنجار ، وكان صاحبها موافقا للأشرف وبدر الدين .

[ ص: 321 ] فلما صار عنده ابن المشطوب حسن عنده مخالفة الأشرف ، فأجابه إلى ذلك وأطلقه ، فاجتمع معه من يريد الفساد ، فقصدوا البقعا من أعمال الموصل ، ونهبوا فيها عدة قرى ، وعادوا إلى سنجار ، ثم ساروا وهو معهم إلى تل يعفر ، وهي لصاحب سنجار ; ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية ، فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكرا ، فقاتلوهم ، فمضى منهزما وصعد إلى تل يعفر . واحتمى بها منهم ، ونازلوه وحصروه فيها ، فسار بدر الدين من الموصل إليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة ، وجد في حصره ، وزحف إليها مرة بعد أخرى فملكها سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة ، وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها ، ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة ، ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط .

وأما الملك الأشرف فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد . وتفرق الأمراء عنه كما ذكرناه ، رحل من حران إلى دنيسر ، فنزل عليها واستولى على بلد ماردين ، وشحن عليه ، وأقطعه . ومنع الميرة عن ماردين ، وحضر معه صاحب آمد ، وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح ، فاصطلحوا على أن يأخذ الأشرف رأس عين ، وكان هو قد أقطعها لصاحب ماردين ، ويأخذ منه أيضا ألف دينار ، ويأخذ منه صاحب آمد الموزر ، من بلد شبختان .

فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل ، فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه ، ويطلب العوض عنها مدينة الرقة .

وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه ، فانخلع قلبه ، وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه وزادوه رعبا وخوفا ، لأنه تهددهم ، فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم ، ولأنه قطع رحمه ، وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه ; قتله كما نذكره إن [ ص: 322 ] شاء الله ، وملكها ، فلقاه الله سوء فعله ، ولم يمتعه بها ، فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في أمره ، فأرسل في التسليم إليه ، فأجابه الأشرف إلى العوض ، وسلم إليه الرقة وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة ، وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم ، وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار ، فسبحان الحي الدائم الذي ليس لملكه آخر . وكان مدة ملكهم لها أربعا وتسعين سنة ، وهذا دأب الدنيا بأبنائها ، فتعسا لها من دار ما أغدرها بأهلها !

التالي السابق


الخدمات العلمية