الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه

في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام ، وهم نوع كثير من الترك ، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين ، وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر .

وكان السبب في ظهورهم أن ملكهم ، ويسمى بجنكزخان ، المعروف [ ص: 336 ] بتمرجين ، كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان ، وسير جماعة من التجار والأتراك ، ومعهم كثير من النقرة والقندز وغيرهما ، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابا للكسوة ، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترار ، وهي آخر ولاية خوارزم شاه ، وكان له نائب هناك ، فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه ، فقتلهم ، وسير ما معهم ، وكان شيئا كثيرا ، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى ، وسمرقند ، وأخذ ثمنه منهم .

وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد ، وإن طائفة من التتر أيضا كانوا قد خرجوا قديما والبلاد للخطا ، فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا ، وقتلهم ، واستولى هؤلاء التتر على تركستان : كاشغار ، وبلاساغون وغيرهما ، وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه ، فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها .

وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر :


فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر



فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو ، وكم مقدار ما معه من الترك ، وما يريد أن يعمل ، فمضى الجواسيس ، وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم ، حتى وصلوا إليه ، فعادوا بعد مدة طويلة ، وأخبروه بكثرة عددهم ، وأنهم يخرجون عن الإحصاء ، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة ، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم ، فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم ، وحصل عنده فكر زائد ، فأحضر الشهاب الخيوفي ، وهو فقيه فاضل ، كبير المحل عنده ، لا يخالف ما يشير به ، فحضر [ ص: 337 ] عنده ، فقال له : قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله ، وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى .

فقال له : في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف ، ونجمع العساكر ، ويكون النفير عاما ، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس ، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون ، وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام ، فنكون هناك ، فإذا جاء العدو ، وقد سار مسافة بعيدة ، لقيناه ونحن مستريحون ، وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب .

فجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة ، فاستشارهم ، فلم يوافقوه على رأيه ، بل قالوا : الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا ، ويسلكون هذه الجبال والمضايق ، فإنهم جاهلون بطرقهم ، ونحن عارفون بها ، فنقوى حينئذ عليهم ، ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد .

فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهدد خوارزم شاه ، ويقول : تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم ! استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به .

وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان ، فملك كاشغار ، وبلاساغون ، وجميع تلك البلاد ، وأزال عنها التتر الأولى ، فلم يظهر لهم خبر ، ولا بقي لهم ، بل بادوا كما أصاب الخطا ، وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزم شاه ، فلما سمعها خوارزم شاه أمر بقتل رسوله ، فقتل ، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه ، وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان يخبرونه بما فعل بالرسول . ويقولون له : إن خوارزم شاه يقول لك : أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا ، حتى أنتقم ، وأفعل بك كما فعلت بأصحابك .

وتجهز خوارزم شاه ، وسار بعد الرسول مبادرا ليسبق خبره ويكبسهم ، فأدمن السير ، فمضى ، وقطع مسيرة أربعة أشهر ، فوصل إلى بيوتهم ، فلم ير فيها إلا النساء [ ص: 338 ] والصبيان والأثقال ، فأوقع بهم وغنم الجميع ، وسبى النساء والذرية .

وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان ، فقاتلوه ، وهزموه وغنموا أمواله وعادوا ، فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم ، فجدوا السير ، فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم ، وتصافوا للحرب ، واقتتلوا قتالا لم يسمع بمثله ، فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها ، فقتل من الطائفتين ما لا يعد ، ولم ينهزم أحد منهم .

أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية ، وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم .

وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم ، واشتد بهم الأمر ، حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه راجلا ، ويتضاربون بالسكاكين ، وجرى الدم على الأرض ، حتى صارت الخيل تزلق من كثرته ، واستنفد الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال . هذا القتال جميعه مع ابن جنكزخان ولم يحضر أبوه الوقعة ، ولم يشعر بها ، فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا ، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم .

فلما كان الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض ، فلما أظلم الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا وكذلك فعل المسلمون أيضا ، كل منهم سئم القتال ; فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكزخان ، وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى فاستعد للحصار لعلمه بعجزه . لأن طائفة عسكره لم يقدر خوارزم شاه على أن يظفر بهم ، فكيف إذا جاءوا جميعهم مع ملكهم ؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار ، وجمع الذخائر للامتناع ، وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها ، وفي سمرقند خمسين ألفا ، وقال لهم : احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم .

فلما فرغ من ذلك رحل عائدا إلى خراسان فعبر جيحون ، ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك .

[ ص: 339 ] وأما الكفار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر ، فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزم شاه ، وحصروها ، وقاتلوها ثلاثة أيام قتالا شديدا متتابعا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان ، فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم ، فأرسلوا القاضي ، وهو بدر الدين قاضي خان ليطلب الأمان للناس ، فأعطوهم الأمان .

وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم . فاعتصموا بالقلعة ، فلما أجابهم جنكزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة ، فدخل الكفار بخارى ولم يتعرضوا لأحد ، بل قالوا لهم : كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا ، وساعدونا على قتال من بالقلعة ، وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة ، ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ، ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل ، فحضروا جميعهم ، فأمرهم بطم الخندق ، فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك ، حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونها في الخندق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وبحق سمى الله نفسه صبورا حليما ، وإلا كان خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا .

ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربع مائة فارس من المسلمين ، فبذلوا جهدهم ، ومنعوا القلعة اثني عشر يوما يقاتلون جمع الكفار وأهل البلد ، فقتل بعضهم ، ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ، ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه ، واشتد حينئذ القتال ، ومن بها من المسلمين يرمون ما يجدون من حجارة ونار وسهام ، فغضب اللعين ، ورد أصحابه ذلك اليوم ، وباكرهم من الغد ، فجدوا في القتال ، وقد تعب من بالقلعة ونصبوا ، وجاءهم ما لا قبل لهم به ، فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة ، وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم ، فلما فرغ من القلعة نادى أن يكتب له وجوه الناس ورؤساؤهم ، ففعلوا ذلك ، فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم [ ص: 340 ] فحضروا ، فقال : أريد منكم النقرة التي باعكم خوارزم شاه ، فإنها لي ، ومن أصحابي أخذت ، وهي عندكم .

فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه ، ثم أمرهم بالخروج من البلد ، فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم ، ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه ، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه ، وأحاط بالمسلمين ، فأمر أصحابه أن يقتسموهم ، فاقتسموهم .

وكان يوما عظيما من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان ، وتفرقوا أيدي سبا ، وتمزقوا كل ممزق ، واقتسموا النساء أيضا ، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس ، وارتكبوا من النساء العظيم ، والناس ينظرون ويبكون ، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئا مما نزل بهم ، فمنهم من لم يرض بذلك ، واختار الموت على ذلك ، فقاتل حتى قتل ، وممن فعل ذلك واختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين ، الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده ، فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا .

وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان ، ومن استسلم أخذ أسيرا ، وألقوا النار في البلد ، والمدارس ، والمساجد ، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ، ثم رحلوا نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزم شاه عنهم ، وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ ، واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى ، فساروا بهم مشاة على أقبح صورة ، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه ، فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة ، وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم ، حتى تقدموا شيئا فشيئا ليكون أرعب لقلوب المسلمين ، فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه .

فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ، ومع كل عشرة من الأسارى علم ، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة ، وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية ، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة ، فخرج إليهم شجعان أهله ، وأهل الجلد والقوة رجالة ، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين ، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر [ ص: 341 ] يتأخرون ، وأهل البلد يتبعونهم ، ويطمعون فيهم ، وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينا ، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد ، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا ، فبقوا في الوسط ، وأخذهم السيف من كل جانب ، فلم يسلم منهم أحد ، قتلوا عن آخرهم شهداء ، رضي الله عنهم ، وكانوا سبعين ألفا على ما قيل .

فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك ، فقال الجند ، وكانوا أتراكا : نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا ، فطلبوا الأمان ، فأجابوهم إلى ذلك ، ففتحوا أبواب البلد ، ولم يقدر العامة على منعهم ، وخرجوا إلى الكفار بأهلهم وأموالهم ، فقال لهم الكفار : ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم ، ففعلوا ذلك ، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم ، وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم .

فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ، ومن تأخر قتلوه ، فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب ، والقتل ، والسبي ، والفساد ، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه ، وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله ، وافتضوا الأبكار ، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ، وقتلوا من لم يصلح للسبي ، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة .

وكان خوارزم شاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند ، فيرجعون ولا يقدرون على الوصول إليها ، نعوذ بالله من الخذلان ; سير عشرة آلاف فارس فعادوا كالمنهزمين من غير قتال ، وسير عشرين ألفا فعادوا أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية