الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى خوزستان والعراق .

في أول هذه السنة وصل جلال الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش إلى بلاد خوزستان والعراق ، وكان مجيئه من بلاد الهند ; لأنه كان وصل إليها لما قصد التتر غزنة ، وقد ذكرنا ذلك جميعه ، فلما تعذر عليه المقام ببلاد الهند ، سار عنها على كرمان ، ووصل إلى أصفهان وهي بيد أخيه غياث الدين ، وقد تقدمت أخباره ، فملكها وسار عنها إلى بلاد فارس ، وكان أخوه قد استولى على بعضها ، كما ذكرناه ، فأعاد ما كان أخوه أخذه منها إلى أتابك سعد صاحبها ، وصالحه وسار من عنده إلى خوزستان ، فحصر مدينة تستر في المحرم ، وبها الأمير مظفر الدين المعروف بوجه [ ص: 389 ] السبع ، مملوك الخليفة الناصر لدين الله ، حافظا لها ، وأميرا عليها ، فحصره جلال الدين ، وضيق عليه ، فحفظها وجه السبع ، وبالغ في الحفظ والاحتياط ، وتفرق الخوارزمية ينهبون ، حتى وصلوا إلى بادرايا وباكسايا وغيرهما ، وانحدر بعضهم إلى ناحية البصرة ، فنهبوا هنالك ، فسار إليهم شحنة البصرة ، وهو الأمير ملتكين ، فسار إليهم فأوقع بهم ، وقتل منهم جماعة ، فدام الحصار نحو شهرين ، ثم رحل عنها بغتة .

وكانت عساكر الخليفة ، مع مملوكه جمال الدين قشتمر ، بالقرب منه ، فلما رحل جلال الدين لم يقدر العسكر على منعه ، فسار إلى أن وصل إلى بعقوبا ، وهي قرية مشهورة بطريق خراسان ، بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ ، فلما وصل الخبر إلى بغداد تجهزوا للحصار ، وأصلحوا السلاح من الجروخ ، والقسي والنشاب ، والنفط ، وغير ذلك ، وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد .

وأما عسكر جلال الدين فنهب البلاد وأهلكها ، وكان قد وصل هو وعسكره إلى خوزستان في ضر شديد وجهد جهيد ، وقلة من الدواب ، والذي معهم فهو من الضعف إلى حد لا ينتفع به ، فغنموا من البلاد جميعها واستغنوا ، وأكثروا من أخذ الخيل والبغال ، فإنهم كانوا في غاية الحاجة إليها .

وسار من بعقوبا إلى دقوقا فحصرها ، فصعد أهلها إلى السور وقاتلوه ، وسبوه ، وأكثروا من التكبير ، فعظم ذلك عنده وشق عليه ، وجد في قتالهم ، ففتحها عنوة وقهرا ، ونهبتها عساكره ، وقتلوا كثيرا من أهلها ، فهرب من سلم منهم من القتل وتفرقوا في البلاد .

ولما كان الخوارزميون على دقوقا ، سارت سرية منهم إلى البت والراذان ، فهرب أهلها إلى تكريت ، فتبعهم الخوارزمية ، فجرى بينهم وبين عسكر تكريت وقعة شديدة ، فعادوا إلى العسكر .

ولقد رأيت بعض أعيان أهل دقوقا وهم بنو يعلى ، وهم أغنياء ، فنهبوا ، وسلم [ ص: 390 ] أحدهم ، ومعه ولدان له ، وشيء يسير من المال ، فسير ما سلم معه إلى الشام مع الولدين ليتجر بما ينتفعون به وينفقونه على نفوسهم ، فمات أحد الولدين بدمشق ، واحتاط الحاكم على ما معهم ، فلقد رأيت أباهم على حالة شديدة لا يعلمها إلا الله ، يقول : أخذت الأموال والأملاك ، وقتل بعض الأهل ، وفارق من سلم منهم الوطن بهذا القدر الحقير ، أردنا [ أن ] نكف به وجوهنا من السؤال ، ونصون أنفسنا ، فقد ذهب الولد والمال .

ثم سار إلى دمشق ليأخذ ما سلم مع ابنه الآخر ، فأخذه وعاد إلى الموصل ، فلم يبق غير شهر حتى توفي ، إن الشقي بكل حبل يخنق .

وأما جلال الدين فإنه لما فعل بأهل دقوقا ما فعل ، خافه أهل البوازيج ، وهي لصاحب الموصل ، فأرسلوا إليه يطلبون منه إرسال شحنة إليهم يحميهم ، وبذلوا له شيئا من المال ، فأجابهم إلى ذلك ، وسير إليهم من يحميهم ، قيل : كان بعض أولاد جنكزخان ملك التتر ، أسره جلال الدين في بعض حروبه مع التتر ، فأكرمه ، فحماهم ، وأقام بمكانه إلى أواخر ربيع الآخر ، والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين صاحب إربل ، فاصطلحوا ، فسار جلال الدين إلى أذربيجان ، وفي مدة مقام جلال الدين بخوزستان والعراق ثارت العرب بالبلاد يقطعون الطريق ، وينهبون القرى ، ويخيفون السبيل ، فنال الخلق منهم أذى شديد ، وأخذوا في طريق العراق قفلين عظيمين كانا سائرين إلى الموصل ، فلم يسلم منهما شيء ألبتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية