الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فروع خمسة : الأول في ( الكتاب ) : من أحرم بالحج من مكة وأخر الخروج يوم التروية والليلة المقبلة ، ولم يبت بمنى ، وغدا من مكة إلى عرفات فقد أساء ولا شيء عليه قال ابن القاسم : كره ترك المبيت بمنى كما كره تركه بها بعد عرفات وقال : على من ترك ليلة كاملة أو جلها دم . ولم ير فيه قبل عرفة دما .

                                                                                                                ويكره التقدم على منى قبل التروية أو إلى عرفة ، ولا يتقدم الناس بأقبيتهم إليها بل يقتدى به عليه السلام ، وكره البنيان الذي اتخذه الناس بمنى وبنيان مسجد عرفة ; لأنه محدث بعد بني هاشم بعشرين سنة ، قال سند : المبيت قبل عرفة بمنى للاستراحة ، لا لإقامة نسك بها وبعدها لإقامة النسك فيكون نسكا فيتعلق بترك الدم ، وإذا حضرت الجمعة يوم التروية وجبت على المقيمين ، والأفضل للمسافر [ ص: 255 ] شهودها عند أصبغ ، وتركها لإدراك الظهر والعصر بمنى عند محمد ، قال ابن عبد الحكم : ولو أنه صلى الظهر في الطريق ، ولم يكره أشهب تقديم الأثقال قبل التروية ; لتعلق المناسك بالأبدان دون الأثقال ، وكراهة البناء بمنى ; لأنها حرام لا ملك فيها فلا تحجر ، لما في الترمذي قلنا يا رسول الله : ألا نبني لك بيتا يظلك بمنى ؟ قال : لا ، منى مناخ من سبق . وقال مالك : يقدم الإمام والناس يوم عرفة قبل الشمس ، ومن دابته ضعيفة قبل ذلك قال مالك : ويستحب الذهاب راكبا لفعله عليه السلام .

                                                                                                                الثاني : في ( الكتاب ) موضع الخطبة به اليوم حيث كان قديما ، ويخطب متكئا على شيء ، ويصلي بالناس ثمت ، ويؤذن المؤذن إن شاء والإمام يخطب أو بعد فراغه ، قال سند : يستحب للإمام وغيره النزول بنمرة وهو موضع بعرفة فيضرب الإمام خباء أو قبة بها كفعله عليه السلام ، فإذا زالت الشمس اغتسل الناس للوقوف ، وذهبوا للمسجد ذاكرين الله تعالى وهذا المسجد اليوم هو موضع خطابته ، والمذهب : أنه لا يخطب قبل الزوال . وجوزه ابن حبيب قبله بيسير ، إلا أنها ليست للصلاة حتى يقف على وقتها ، وإنما هي للتعليم ، والأول أظهر تأسيا به عليه السلام وتأخير الأذان بعد الخطبة أحسن ; لحديث جابر ، ولنفي التخليط ، وقال الشافعية : إذا قام الإمام من الجلسة ، ويستحب تطويل الدعاء لقوله عليه السلام : ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ) وفي مسلم قال عليه السلام : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا [ ص: 256 ] من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ) . وفي ( الجلاب ) : يجمع بين الظهر والعصر بأذانين وإقامتين ، وقيل : بإقامتين بلا أذان قال سند : قال مالك : من فاته الإمام جمع في رحله ، وقال أيضا : له الجمع في رحله وربما صلى مع الإمام ، وقال ابن حبيب و ( ش ) و ( ح ) : لا يترك الجمع مع الإمام ألبتة للسنة .

                                                                                                                ( تنبيه ) : جمع الرشيد مالكا وأبا يوسف - رضي الله عنهما - فسأل أبو يوسف مالكا عن إقامة الجمعة بعرفة ؟ فقال مالك : لا يجوز ; لأنه عليه السلام وافق الجمعة بعرفة في حجة الوداع ولم يصلها ، فقال أبو يوسف : قد صلاها ; لأنه خطب خطبتين وصلى بعدهما ركعتين وهذا هو الجمعة فقال مالك : أجهر فيهما بالقراءة كما يجهر بالجمعة ؟ فسكت أبو يوسف وسلم لمالك .

                                                                                                                الثالث : في ( الكتاب ) : إذا فرغ الإمام من الصلاة دفع إلى عرفات والناس بعده ، والنزول بعرفات ومنى والمشعر الحرام حيث شئت ; لما في حديث جابر قال عليه السلام : ( نحرت ههنا ومنى كلها منحر ، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ) وقاله الجميع ، وقال سند : قال ابن حبيب : إذا تمت الصلاة بعرفة فخذ في التهليل والتحميد والتكبير ، ثم استند إلى القصبات بسفح الجبل ، وحيث يقف الإمام أفضل لحديث جابر قال مالك : لا أحب الوقوف على جبال عرفة ولكن مع الناس ، وليس في موضع من ذلك فضل إذا وقف مع الناس ، واتفق الجميع على أن وادي عرفة ليس من عرفة ، ولا يجزئ الوقوف به . واختلفوا في مسجد عرفة قال مالك : لم يصب من وقف به ، قيل : فإن فعل ؟ قال : لا أدري ، وقال أصبغ : لا يجزئ ، واختار محمد الإجزاء ; لما في أبي داود ( أنه عليه السلام [ ص: 257 ] صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة ) والظاهر أن موضع الصلاة موضع الخطبة وهو خطب مكان المسجد اليوم ، والركوب أفضل عند مالك وابن حنبل ، خلافا ل ( ش ) للسنة . ولما فيه من الاستعانة على الدعاء ، ولذلك يستحب ترك الصوم فمن وقف قائما فلا يجلس إلا إذا أعيا .

                                                                                                                الرابع : في ( الكتاب ) : من وقف به مغمى عليه حتى دفع أجزأه ، ولا دم عليه خلافا ل ( ش ) لأن الإغماء إذا طرأ على الإحرام لا يفسده إجماعا . وقد دخلت نية الوقوف في نية الإحرام . ولذلك يجزئ النائم ، وفي أبي داود قال عروة بن مضرس الطائي : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالموقف يعني : بجمع فقلت يا رسول الله : أهلكت مطيتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال عليه السلام : ( من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى قبل ذلك عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) وفي ( الجواهر ) : روي عن مالك أن من أغمي عليه قبل الزوال لم يجزئه أو بعده ، قبل أن يقف أجزأه ، وإن اتصل به الإغماء حتى دفع وليس عليه أن يقف ثانية إن أفاق بقية الليل . كالذي يغمى عليه في رمضان قبل الفجر أو بعده ، وروي عنه : إن وقف مفيقا ، ثم أغمي عليه أجزأه فإن وقف مغمى عليه فلم يقف حتى طلع الفجر لم يجزئه ; لأن الإغماء ينافي التقرب والنية الفعلية ، فأولى الحكمية التي هي أضعف منها ، والفرق بين الحج والصوم : أن الصوم ترك ، والترك لا يتوقف الخروج عن عهدتها على الشعور بها ، ولا القصد إليها بدليل الخروج عن عهدة كل قتل في العالم ، وشرب الخمر وإن لم تشعر بذلك النفوس ولا بذلك الخمور ، وإنما يكون الصوم فعلا عند ابتداء [ ص: 258 ] الدخول فيه لا جرم إذا أغمي عليه حينئذ بطل ، والحج فعل حقيقي فيتعين فيه الشعور والقصد ، ولاحظ مالك في المشهور قوة انعقاد الإحرام مع أعظم مفسداته كالجماع وغيره ، وأشار إلى الزوال ; لأنه ابتدأ الدخول في هذا الركن ، فكأنه وقت النية الفعلية وهو كالفجر مع الصوم .

                                                                                                                الخامس : قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : من تعمد ترك الوقوف حتى دفع الإمام أجزأه أن يقف ليلا ، وأساء ويهدي ، ومن مر بعرفة مارا بعد دفع الإمام أجزأه إن كان قبل الفجر . والأفضل في الوقوف الطهارة ، وروى الأبهري بإسناده قال عليه السلام : ( من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة ) وهو نص في اشتراط الليل ، قال سند : إذا غم على الناس ليلة تسع وعشرين من ذي القعدة فأكملوا ووقفوا التاسع فثبت أنه العاشر قال مالك وابن القاسم و ( ش ) و ( ح ) : يجزئهم لقوله عليه السلام : ( حجكم يوم تحجون ) أي : يوم يحجون فيه اجتهادا ، ولعظم مشقة الحج ، وقال ابن القصار : لا يجزئهم كما لو أخطوا المكان ، وقال الشافعية : لو ثبت أنه العاشر قبل وقوفهم ووقفوا أجزأهم وهو باطل ; لتيقن الخطأ حالة المباشرة ، وإنما الرخصة إذا وقفوا معتقدين ، ولذلك صحت الصلاة مع اعتقاد جهة الكعبة ، وبطلت مع اعتقاد خطئها .

                                                                                                                وفي ( تهذيب الطالب ) قال ابن القاسم : إذا ثبت أن وقوفهم يوم النحر مضوا على عملهم تبين ذلك في يومهم أو بعده ، ويتأخر النحر وعمل الحج كله كحال من لم يحط ، وقال ( ح ) : إن تبين أنه يوم التروية [ ص: 259 ] أجزأه ; لأنه عليه السلام بعث أبا بكر سنة ثمان أميرا على الحج وألحقه علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - بسورة ( براءة ) يقرؤها على المشركين بعرفة موضع اجتماعهم ، ويأمرهم أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

                                                                                                                وكان حج الجميع في ذي القعدة ; لأن الجاهلية كانت تحج في كل شهر سنتين فصادف تلك السنة ذا القعدة ، وتأخر عليه السلام حتى أتى سنة تسع فحج في ذي الحجة فإذا صح الحج قبل عرفة بشهر فأولى بيوم ، وفي ( الجواهر ) : لو وقفوا الثامن لم يجزئهم ووجب القضاء ، وحكي الإجزاء عن ابن القاسم وسحنون والقاضي أبي بكر قال سند : من ردت شهادته في الهلال يلزمه الوقوف كالصوم ، وقاله الجمهور ، وقال محمد بن الحسن : لا يجزئه حتى يقف مع الناس يوم العاشر ، وقد سلم الصوم فيكون حجة عليه .

                                                                                                                وأول الوقوف عند الجمهور زوال الشمس ، وعند ابن حنبل من طلوع الفجر لحديث عروة السابق ، وقياسا لجميع النهار على جميع الليل ، وجوابه : أنه فعله عليه السلام واتفاق أهل الأعصار على ذلك ، وآخر الوقت طلوع الفجر يوم العاشر ، ولا يجب استيعاب الوقت إجماعا ، وقد دفع عليه السلام أول الليل .

                                                                                                                وأجمعت الأمة على إجزاء جزء من الليل ، فإن وقف نهارا دون الليل يجزئه عند مالك ، ويجزئه عند ( ح ) و ( ش ) وعليه دم ، لحديث عروة السابق ، وقياسا للنهار على الليل ، بل النهار أفضل ; لأنه يقال يوم عرفة ، ولذلك قال عليه السلام : ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ) فالمشهور اليوم دون الليل ؛ ولأنه عليه السلام وقف [ ص: 260 ] نهارا وانصرف عند إقبال الليل . لنا حديث جابر : أنه عليه السلام لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة . وحديث الأبهري المتقدم ونقول : الليل أولى لكونه مجمعا عليه ، وإن من فاته النهار لا دم عليه ، ومن فاته الليل بطل حجه ، وعليه دم وعندهم ، وما رووه لا حجة فيه ; لأن أبا داود أشار إلى أن : ( ليلا أو نهارا ) من قول الراوي فلو دفع قبل الغروب ورجع قبل الفجر قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : يجزئه ويستحب الهدي ، وأوجبه ابن حنبل ; لأنه وجب بالدفع فلا يسقط بالعود كمجاوزة الميقات .

                                                                                                                وجوابه : أنه كمن رجع للميقات قبل الإحرام ، ولو دفع حين الغروب أجزأه عند ابن القاسم ، فلو دفع قبل الغروب ولم يخرج من عرفة حتى غربت الشمس قال مالك : أجزأه وعليه دم لعزمه على ترك الليل ، ومن أتى قبل الفجر وعليه صلاة إن اشتغل بها طلع الفجر ، قال أبو محمد : إن كان قريبا من جبال عرفة وقف وصلى ، وإلا ابتدأ بالصلاة وإن فاته الحج ، وقال ابن عبد الحكم : إن كان مكيا بدأ بالصلاة أو آفاقيا بدأ بالحج .

                                                                                                                واختار اللخمي تقديم الحج مطلقا عند خوف الفوات .

                                                                                                                قاعدة : المضيق في الشرع مقدم على ما وسع في تأخيره ، وما وسع فيه في زمان محصور كالصلاة مقدم على ما غياه بالعمر كالكفارات ، وما رتب على تاركيه القتل مقدم على ما ليس كذلك فتقدم الصلاة على الحج إجماعا ، غير أن فضل الصلاة قد عورض ههنا بالدخول في الحج وما في فواته من المشاق ، فأمكن أن يلاحظ ذلك وفي ( الجواهر ) : من أدرك الإحرام ليلة العيد صح لبقاء الوقت ; لأن الحج عرفة ووقته باق قال سند : إن مر بعرفة وعرفها أجزأه ، وإن لم يعرفها فقال محمد : لا يجزئه والأشهر الإجزاء ; لأن تخصيص أركان الحج بالنية ليس شرطا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية