الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وإذا قطعت يد السارق ورد المتاع على صاحبه ثم سرقه مرة أخرى لم يقطع عندنا استحسانا ، وعن أبي يوسف أنه يقطع ، وهو القياس وهو قول الشافعي ; لأنه سرق مالا كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه وبهذه الأوصاف قد لزمه القطع في المرة الأولى ، فكذلك في المرة الثانية ، وهذا ; لأنه تعذر رد المتاع على المسروق منه وهذه العين في حق السارق كعين أخرى في حكم الضمان حتى لو غصبه أو أتلفه كان ضامنا ، وكذلك في حكم القطع ، ألا ترى أنه لو باعه المسروق منه من إنسان فسرقه من المشتري أو باعه ثم اشتراه ثم سرقه منه ثانيا يقطع ؟ فكذلك قبل البيع والشراء .

والدليل عليه أنه لو سرق غزلا فقطعت يده ثم نسجه المالك ثم سرقه ثانيا يقطع ، وكذلك الحنطة إذا طحنها ، وكذلك لو كانت بقرة فولدت عند المسروق منه ثم سرق ولدها يقطع والولد جزء منها ، فإذا كان يقطع بسرقة جزء منها ، فكذلك بسرقتها والدليل عليه أنه لو سرق من حرز فقطعت يده فخرب ثم أعيد ذلك الحرز فسرق منه مرة أخرى قطع ، فكذلك المال ، ولأن هذا حد لله تعالى خالصا فيتكرر بتكرر الفعل في محل واحد كحد الزنا ، فإن من زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى لزمه الحد بخلاف حد القذف ، فإنه حق المقذوف عندي وخصومته في الحد غير مسموعة في المرة الثانية ; لأن المقصود إظهار كذب القاذف ودفع العار عن المقذوف ، وقد حصل ذلك بالمرة الأولى .

( وحجتنا ) فيه نوعان من الكلام : أحدهما ، ما بينا أن صفة المالية والتقوم لم يبق في هذا العين حقا للمسروق منه بعد ما قطعت يد السارق بدليل أنه لو تلف في يده أو أتلفه لم يضمن ، فبعد ذلك وإن ظهرت المالية والتقوم في حقه بالاسترداد يبقى ما سبق مورثا شبهة والقطع يندرئ بالشبهات ، وهو نظير ما يوجد مباح الأصل في دار الإسلام إذا أحرزه إنسان صار مالا متقوما له ومع ذلك لم يقطع السارق فيه باعتبار الأصل فهذا مثله ، فأما إذا باعه ثم اشتراه ، فقد قيل لا يلزمه القطع أيضا [ ص: 166 ] ولئن سلمنا ، فإن الملك هناك يتجدد بتجدد السبب والمالية والتقوم باعتبار الملك فجعل متجددا أيضا بخلاف ما قبل البيع والشراء هذا ; لأن اختلاف أسباب الملك كاختلاف الأعيان ، ألا ترى { أن بريرة كان يتصدق عليها وهي تهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هو لها صدقة ولنا هدية } والمشتري إذا باع من غيره ثم اشتراه ثم وجد به عيبا لم يرده على البائع الأول فدل أن تبدل سبب الملك كتبدل العين ، فأما الغزل إذا نسجه فهو في حكم عين آخر ، فلهذا لو فعله الغاصب كان الثوب مملوكا له ، فإنما سرق في المرة الثانية عينا أخرى ، وعلى هذا الحرز فإنه إذا أعيد الحرز كان هذا حرزا متجددا غير الأول ; لأن الحرز ليس بعبارة عن عين الجدار بل هو عبارة عن التحفظ والتحصن .

وكذلك حد الزنا ، فإنه يجب باعتبار المستوفى فالمستوفى مثلا شيء والمستوفى في المرة الثانية غير المستوفى في المرة الأولى ، فلهذا لزمه الحد مع أن هناك حرمة المحل لا تسقط في حقه باستيفاء الحد منه في المرة الأولى بخلاف المالية والتقوم الذي هو حق المالك في العين فإنه يسقط اعتباره باستيفاء القطع من السارق ، ولأن هذا حد لا يستوفى إلا بخصومة فلا يتكرر بتكرر الخصومة من واحد في محل واحد كحد القذف ، وبيانه أن الشهود لو شهدوا بالسرقة من غير خصم لا يثبت القطع بالاتفاق وتأثيره أن في خصومته في المرة الثانية نوع شبهة ; لأنه قد استوفى بخصومته مرة ما هو جزاء سرقة هذا العين فيمكن شبهة في خصومته في المرة الثانية ، وذلك مانع من القطع الذي يندرئ بالشبهات غير مانع من الضمان الذي يثبت مع الشبهات بخلاف حد الزنا ، فإنه لا تعتبر الخصومة فيه

التالي السابق


الخدمات العلمية