الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها

كان سعد قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن ، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلي ، فجمع ما في القصر والإيوان والدور ، وأحصى ما يأتيه به الطلب ، وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة ، وهربوا في كل وجه ، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب ، فأخذوا ما معهم ، ورأوا بالمدائن قبابا تركية مملوة سلالا مختومة برصاص فحسبوها طعاما ، فإذا فيها آنية الذهب والفضة ، وكان الرجل يطوف ليبيع الذهب بالفضة متماثلين . ورأوا كافورا كثيرا فحسبوه ملحا ، فعجنوا به فوجدوه مرا .

وأدرك الطلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه ، فوقع منهم بغل في الماء فعجلوا وكبوا عليه ، فقال بعض المسلمين : إن لهذا البغل لشأنا ، فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه ، وفيه حلية كسرى ، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي فيها الجوهر ، وكان يجلس فيها للمباهاة ، ولحق الكلج بغلين معهما فارسيان ، فقتلهما وأخذ البغلين فأبلغهما صاحب الأقباض ، وهو يكتب ما يأتيه به الرجال ، فقال له : قف حتى ننظر ما معك . فحط عنهما فإذا سفطان فيهما تاج كسرى مرصعا ، وكان لا يحمله إلا أسطونتان وفيه الجوهر ، وعلى البغل الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما .

وأدرك القعقاع بن عمرو فارسيا فقتله ، وأخذ منه عيبتين في إحداهما خمسة [ ص: 343 ] أسياف ، وفي الأخرى ستة أسياف وأدرع ، منها درع كسرى ومغافره ، ودرع هرقل ، ودرع خاقان ملك الترك ، ودرع داهر ملك الهند ، ودرع بهرام جوبين ، ودرع سياوخش ، ودرع النعمان ، استلبها الفرس أيام غزاهم خاقان وهرقل وداهر ، وأما النعمان وجوبين فحين هربا من كسرى ، والسيوف من سيوف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان ، فأحضر القعقاع الجميع عند سعد ، فخيره بين الأسياف فاختار سيف هرقل ، وأعطاه درع بهرام ، ونفل سائرها في الخرساء ، إلا سيف كسرى والنعمان ، بعث بهما إلى عمر بن الخطاب لتسمع العرب بذلك وحسبوهما في الأخماس ، وبعثوا بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون .

وأدرك عصمة بن خالد الضبي رجلين معهما حماران ، فقتل أحدهما وهرب الآخر ، وأخذ الحمارين فأتى بهما صاحب الأقباض ، فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة مكلل بالجوهر ، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب ، وبطان من ذهب ، ولها زمام من ذهب ، وكل ذلك منظوم بالياقوت ، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر ، كان كسرى يضعها على أسطوانتي التاج .

وأقبل رجل بحق إلى صاحب الأقباض ، فقال هو والذين معه : ما رأينا مثل هذا [ خط ] ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : والله لولا الله ما أتيتكم به . فقالوا : من أنت ؟ فقال : والله لا أخبركم فتحمدوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا ، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس . وقال سعد : والله إن الجيش لذو أمانة ، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر ، لقد تتبعت منهم هنات ما أحسبها من هؤلاء .

وقال جابر بن عبد الله : والذي لا إله إلا هو ، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية [ ص: 344 ] أنه يريد الدنيا مع الآخرة ، فلقد اتهمنا ثلاثة نفر ، فما رأينا كأمانتهم وزهدهم ، وهم : طليحة ، وعمرو بن معدي كرب ، وقيس بن المكشوح .

وقال عمر لما قدم عليه بسيف كسرى ومنطقته وبزبرجه : إن قوما أدوا هذا لذوو أمانة . فقال علي : إنك عففت فعفت الرعية .

فلما جمعت الغنائم قسم سعد الفيء بين الناس بعدما خمسه ، وكانوا ستين ألفا ، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا ، وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل ، ونفل من الأخماس في أهل البلاء ، وقسم المنازل بين الناس ، وأحضر العيالات فأنزلهم الدور ، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ثم تحولوا إلى الكوفة . وأرسل سعد في الخمس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب ، وما كان يعجبهم أن يقع ، وأراد إخراج خمس القطف ، فلم تعتدل قسمته ، وهو بهار كسرى ، فقال للمسلمين : هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه فنبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء فإنا لا نراه ينقسم ، وهو بيننا قليل ، وهو يقع من أهل المدينة موقعا ؟ فقالوا : نعم . فبعثه إلى عمر . والقطف بساط واحد طوله ستون ذراعا ، وعرضه ستون ذراعا ، مقدار جريب ، كانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه ، فكأنهم في رياض ، فيه طرق كالصور ، وفيه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة ، وخلال ذلك فصوص كالدر ، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع ، والورق من الحرير على قضبان الذهب ، وزهره الذهب والفضة ، وثمره الجوهر وأشباه ذلك ، وكانت العرب تسميه القطف .

فلما قدمت الأخماس على عمر نفل منها من غاب ومن شهد من أهل البلاء ، ثم قسم الخمس في مواضعه ، ثم قال : أشيروا علي في هذا القطف : فمن بين مشير بقبضه ، وآخر مفوض إليه . فقال له علي : لم يجعل الله علمك جهلا ويقينك شكا ، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت ، أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت ، وإنك إن تبقه على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس له . فقال : صدقتني [ ص: 345 ] ونصحتني ، فقطعه بينهم ، فأصاب عليا قطعة منه فباعها بعشرين ألفا ، وما هي بأجود تلك القطع .

وكان الذي سار بالأخماس بشير بن الخصاصية ، وأثنى الناس على أهل القادسية ، فقال عمر : أولئك أعيان العرب .

ولما رأى عمر سيف النعمان سأل جبير بن مطعم عن نسب النعمان . فقال جبير : كانت العرب تنسبه إلى أشلاء قنص ، وكان أحد بني عجم بن قنص ، فجهل الناس عجم فقالوا لخم ، فنفله سيفه .

وولى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه ، وولى الخراج النعمان وسويدا ابني مقرن ، سويدا على ما سقت الفرات ، والنعمان على ما سقت دجلة ، ثم استعفيا ، فولى عملهما حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزني ، ثم ولى عملهما بعد حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف .

( حذيفة بن أسيد بفتح الهمزة ، وكسر السين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية