الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مقتل عثمان

قد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان . وقد تركنا كثيرا من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك ، ونذكر الآن كيف قتل ، وما كان بدء ذلك وابتداء الجرأة عليه قبل قتله .

فكان من ذلك أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها على عثمان ، فوهبها لبعض بني الحكم ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف ، فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في الدار .

قيل : وكان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق جبلة بن عمرو الساعدي ، مر به عثمان وهو في نادي قومه وبيده جامعة ، فسلم فرد القوم ، فقال جبلة : لم تردون على رجل فعل كذا وكذا ؟ ثم قال لعثمان : والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة : مروان ، وابن عامر ، وابن سعد ، منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمه . فاجترأ الناس عليه ، وقد تقدم قول عمرو بن العاص له في خطبته .

قيل : وخطب يوما وبيده عصا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يخطبون عليها ، فأخذها جهجاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته ، فرمي في ذلك المكان بأكلة .

[ ص: 537 ] وقيل : كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم : إن أردتم الجهاد فهلموا إليه فإن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أفسده خليفتكم فأقيموه . فاختلفت قلوب الناس ، على ما تقدم ذكره ، وجاء المصريون - كما ذكرنا - إلى المدينة ، فخرج إليهم علي ومحمد بن مسلمة - كما تقدم - فكلماهم فعادوا ثم رجعوا ، فلما رجعوا انطلق إليهم محمد بن مسلمة فسألهم عن سبب عودتهم ، فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص وقالوا : وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصدقة ، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحيفة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس ، وعمرو بن الحمق ، وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رءوسهم ولحاهم وصلب بعضهم . وقيل : إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي . فلما رأوه سألوه عن مسيره وهل معه كتاب فقال : لا . فسألوه في أي شيء هو ، فتغير كلامه ، فأنكروه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا وعاد الكوفيون والبصريون . فلما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن مسلمة وقالوا له : قد كلمنا عليا ووعدنا أن يكلمه ، وكلمنا سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد فقالا : لا ندخل في أمركم . وقالوا لمحمد بن مسلمة ليحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر ، فوعدهم بذلك ، فدخل علي ومحمد بن مسلمة على عثمان فاستأذنا للمصريين عليه ، وعنده مروان ، فقال : دعني أكلمهم . فقال عثمان : اسكت فض الله فاك ! ما أنت وهذا الأمر ؟ اخرج عني ! فخرج مروان . وقال علي ومحمد لعثمان ما قال المصريون ، فأقسم بالله : ما كتبته ولا علم [ لي ] به . فقال محمد : صدق ، هذا من عمل مروان .

ودخل عليه المصريون فلم يسلموا عليه بالخلافة ، فعرفوا الشر فيهم ، وتكلموا فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذمة ، والاستئثار في الغنائم ، فإذا قيل له في ذلك قال : هذا كتاب أمير المؤمنين . وذكروا شيئا مما أحدث بالمدينة ، وقالوا له : وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك ، فردنا علي ومحمد بن مسلمة ، وضمنا لنا النزوع عن كل ما تكلمنا فيه ، فرجعنا إلى بلادنا فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس .

فحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا علم . فقال علي ومحمد : صدق عثمان . قال المصريون : فمن كتبه ؟ قال : لا أدري . قالوا : فيجترأ عليك ويبعث غلامك وجملا من الصدقة ، وينقش على خاتمك ، ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم ؟ قال : نعم . قالوا : ما أنت إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما [ ص: 358 ] أمرت به من قتلنا بغير حق ، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر ، وغفلتك وخبث بطانتك ، ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته ، فاخلع نفسك منه كما خلعك الله ! فقال : لا أنزع قميصا ألبسنيه الله ، ولكني أتوب وأنزع . قالوا : لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا ، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ، ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى ، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك . فقال : أما أن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك ، وأما قولكم تقاتلون من منعني فإني لا آمر أحدا بقتالكم ، فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل ، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علي أو لحقت ببعض أطرافي . وكثرت الأصوات واللغط .

فقام علي فخرج وأخرج المصريين ومضى علي إلى منزله ، وحصر المصريون عثمان ، وكتب إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم ، ويأمرهم بالعجل وإرسال الجنود إليه . فتربص به معاوية ، فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله القسري ، فتبعه خلق كثير ، فسار بهم إلى عثمان ، فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا . وقيل : بل سار من الشام حبيب بن مسلمة الفهري ، وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي ، فلما وصلوا الربذة ونزلت مقدمتهم صرارا بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا .

وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره ، فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي يطلب إليه أن يردهم ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه إمداده . فقال : إنهم لا يقبلون التعلل ، وقد كان مني في المرة الأولى ما كان . فقال مروان : أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك ، فإنهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم . فدعا عليا فقال له : قد ترى ما كان من الناس ولست آمنهم على دمي ، فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي وغيري . فقال علي : الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، ولا يرضون إلا بالرضا ، وقد كنت أعطيتهم أولا عهدا فلم تف به فلا تغرني هذه المرة ، فإني معطيهم عليك الحق . فقال : أعطهم فوالله لأفين لهم . فخرج علي إلى الناس فقال لهم : إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه وقد زعم أنه منصفكم من نفسه . فقال الناس : قبلنا فاستوثق منه لنا ، فإنا لا نرضى بقول دون فعل . فدخل عليه علي فأعلمه فقال : اضرب بيني [ ص: 539 ] وبينهم أجلا فإني لا أقدر على أن أرد ما كرهوا في يوم واحد . فقال علي : أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك . قال : نعم ، فأجلني فيما في المدينة ثلاثة أيام . فأجابه إلى ذلك ، وكتب بينهم كتابا على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه .

فكف الناس عنه ، فجعل يتأهب للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جندا ، فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يغير شيئا ثار به الناس ، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري إلى المصريين فأعلمهم الحال ، وهم بذي خشب ، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم . فقال : إن كنت مستعملا من أردتم وعازلا من كرهتم فلست في شيء والأمر أمركم . فقالوا : والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن . فأبى عليهم وقال : لا أنزع سربالا سربلنيه الله . فحصروه واشتد الحصار عليه ، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا ، فأشرف عليهم فقال : يا أيها الناس اجلسوا . فجلسوا المحارب والمسالم . فقال لهم : يا أهل المدينة أستودعكم الله ، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي ، ثم قال : أنشدكم بالله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم ؟ أتقولون إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه ؟ أم تقولون : هان على الله دينه فلم يبال من ولي والدين لم يتفرق أهله يومئذ ؟ أم تقولون : لم يكن أخذ عن مشورة ، إنما كان مكابرة ، فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة ؟ أم تقولون : إن الله لم يعلم عاقبة أمري ! وأنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي ما يوجب على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها ! فمهلا لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة : رجل زنى بعد إحصانه ، أو كفر بعد إيمانه ، أو قتل نفسا بغير حق ، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا .

قالوا : أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك ، فإن كل ما صنع الله خيرة ، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده ، وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كنت كذلك وكنت أهلا للولاية ، ولكن أحدثت ما علمته ، ولا نترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا ، وأما قولك : إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة ، فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت ، قتل من سعى في الأرض فسادا ، وقتل من [ ص: 540 ] بغى ثم قاتل على بغيه ، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه ، وقد تمسكت بالإمارة علينا ، فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون لتمسك بالإمارة ، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك !

فسكت عثمان ولزم الدار ، وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم ، فرجعوا إلا الحسن بن علي ، وابن عباس ، ومحمد بن طلحة ، وعبد الله بن الزبير ، وأشباها لهم ، واجتمع إليه ناس كثير ، فكانت مدة الحصار أربعين يوما ، فلما مضت ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار ، فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس ، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ، ومنعوه كل شيء حتى الماء . فأرسل عثمان إلى علي سرا وإلى طلحة والزبير وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنهم قد منعوني الماء ، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا . فكان أولهم إجابة علي ، وأم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء علي في الغلس فقال : يا أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين ، فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة ، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي ! فقالوا : لا والله ولا نعمة عين ! فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت ، وجاءت أم حبيبة على بغلة لها مشتملة على إداوة ، فضربوا وجه بغلتها فقالت : إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل ، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل . فقالوا : كاذبة ، وقطعوا حبل البغلة بالسيف ، فنفرت وكادت تسقط عنها ، فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها .

فأشرف عثمان يوما فسلم عليهم ثم قال : أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها ، فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين ؟ قالوا : نعم . قال : فلم تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر ؟ ثم قال : أنشدكم بالله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد ؟ قيل : نعم . قال : فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي ؟ ثم قال : أنشدكم بالله أتعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عني كذا وكذا ؟ أشياء في شأنه . ففشا النهي في الناس يقولون : مهلا عن أمير المؤمنين . فقام الأشتر فقال : لعله مكر به وبكم . وخرجت عائشة إلى الحج واستتبعت أخاها محمدا فأبى ، فقالت : والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلن .

فقال له حنظلة الكاتب : تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها ، وتتبع ذؤبان العرب إلى ما [ لا ] يحل ؟ وإن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف . ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول :

[ ص: 541 ]

عجبت لما يخوض الناس فيه يرومون الخلافة أن تزولا     ولو زالت لزال الخير عنهم
ولاقوا بعدها ذلا ذليلا     وكانوا كاليهود وكالنصارى
سواء كلهم ضلوا السبيلا



وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة ، فلزموا بيوتهم وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات . فأشرف عثمان على الناس فاستدعى ابن عباس ، فأمره أن يحج بالناس ، وكان ممن لزم الباب ، فقال : جهاد هؤلاء أحب إلي من الحج فأقسم عليه فانطلق .

قال عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة : دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه ، فمنهم من يقول : ما تنتظرون به ؟ ومنهم من يقول : انظروا عسى أن يراجع . قال : فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال : أين ابن عديس ؟ فقام إليه فناجاه ، ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه : لا تتركوا أحدا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده . فقال لي عثمان : هذا ما أمر به طلحة ، اللهم اكفني طلحة فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم علي ! والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه ! قال : فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج . وقيل : إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان ، وقيل : أدرك قتله .

ولما رأى المصريون أن أهل الموسم يريدون قصدهم ، وأن يجمعوا ذلك إلى حجهم مع ما بلغهم من مسير أهل الأمصار قالوا : لا يخرجنا من هذا الأمر الذي وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل ، فيشتغل الناس عنا بذلك . فراموا الباب فمنعهم الحسن ، وابن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، ومروان ، وسعيد بن العاص ، ومن معهم من أبناء الصحابة ، واجتلدوا ، فزجرهم عثمان وقال : أنتم في حل من نصرتي ، فأبوا ، ففتح الباب لمنعهم ، فلما خرج ورآه المصريون رجعوا ، فركبهم هؤلاء ، وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين ، فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض ، وكان من الصحابة ، فنادى عثمان ، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله .

فقالوا لعثمان عند ذلك : ادفع إلينا قاتله لنقتله به . قال : لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي . فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب ، فلم يمنعهم أحد منه ، والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه ، فجاءوا بنار فأحرقوه والسقيفة التي على الباب ، وثار أهل [ ص: 542 ] الدار ، وعثمان يصلي قد افتتح ( طه ) فما شغله ما سمع ، ما يخطئ وما يتتعتع ، حتى أتى عليها ، فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه ، وقرأ : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فقال لمن عنده بالدار : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه ، ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه ، فأحرج على رجل أن يستقتل أو يقاتل ، وقال للحسن : إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أمرك ، فأقسمت عليك لما خرجت إليه . فتقدموا فقاتلوا ولم يسمعوا قوله ، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق ، وكان تعجل من الحج ، في عصابة لينصروا عثمان وهو معه في الدار ، وارتجز يقول :


قد علمت ذات القرون الميل     والحلي والأنامل الطفول
لتصدقن بيعتي خليلي     بصارم ذي رونق مصقول
لا أستقيل إذ أقلت قيلي



وخرج الحسن بن علي وهو يقول :


لا دينهم ديني ولا أنا منهم     حتى أسير إلى طمار شمام



وخرج محمد بن طلحة وهو يقول :


أنا ابن من حامى عليه بأحد     ورد أحزابا على رغم معد



وخرج سعيد بن العاص وهو يقول :


صبرنا غداة الدار والموت واقب     بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنا غداة الروع في الدار نصرة     نشافههم بالضرب والموت نائب



[ ص: 543 ] وكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير فكان يحدث عن عثمان بآخر ما كان عليه ، وأقبل أبو هريرة والناس محجمون فقال : هذا يوم طاب فيه الضرب ! ونادى : ( قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) ، وبرز مروان وهو يقول :


قد علمت ذات القرون الميل     والكف والأنامل الطفول
أني أروع أول الرعيل     بغارة مثل القطا الشليل



فبرز إليه رجل من بني ليث يدعى البياع ، فضربه مروان وضرب هو مروان على رقبته فأثبته وقطع إحدى علباويه ، فعاش مروان بعد ذلك أوقص ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه ، فقامت فاطمة أم إبراهيم بن عدي ، وكانت أرضعت مروان وأرضعت له ، فقالت : إن كنت تريد قتله فقد قتل ، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح ! فتركه وأدخلته بيتها ، فعرف لها بنوه ذلك ، واستعملوا ابنها إبراهيم بعد . ونزل إلى المغيرة بن الأخنس بن شريق رجل فقتل المغيرة ، قال : فلما سمع الناس يذكرونه قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . فقال له عبد الرحمن بن عديس : ما لك ؟ فقال : رأيت فيما يرى النائم هاتفا يهتف فقال : بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار ، فابتليت به .

واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها ، ودخلوها من دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان حتى ملؤها ولا يشعر من بالباب ، وغلب الناس على عثمان وندبوا رجلا يقتله ، فانتدب له رجل ، فدخل عليه البيت فقال : اخلعها وندعك . فقال : ويحك ! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولست خالعا قميصا كسانيه الله تعالى حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة ! فخرج عنه ، فقالوا : ما صنعت ؟ فقال : والله لا ينجينا من الناس إلا قتله ولا يحل لنا قتله . فأدخلوا عليه رجلا من بني ليث فقال له : لست بصاحبي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا ولن تضيع . فرجع عنه وفارق القوم . ودخل عليه رجل من قريش فقال له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغفر لك يوم كذا وكذا [ ص: 544 ] فلن تقارف دما حراما . فرجع وفارق أصحابه . وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله فقال : يا قوم لا تسلوا سيف الله فيكم ، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه ! ويلكم ! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة ، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف . ويلكم ! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه ليتركنها . فقالوا : يا ابن اليهودية ما أنت وهذا ! فرجع عنهم . وكان آخر من دخل عليه ممن رجع محمد بن أبي بكر ، فقال له عثمان : ويلك أعلى الله تغضب ؟ هل لي إليك جرم إلا حقه أخذته منك ؟

فأخذ محمد لحيته وقال : قد أخزاك الله يا نعثل ! فقال : لست بنعثل ولكني عثمان وأمير المؤمنين ، وكانوا يلقبون به عثمان . فقال محمد : ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ! فقال عثمان : يا ابن أخي فما كان أبوك ليقبض عليها . فقال محمد : لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك ، والذي أريد بك أشد من قبضي عليها ! فقال عثمان : أستنصر الله عليك وأستعين به ! فتركه وخرج .

وقيل : بل طعن جبينه بمشقص كان في يده . والأول أصح .

قال : فلما خرج محمد وعرفوا انكساره ثار قتيرة ، وسودان بن حمران ، والغافقي ، فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله ، فاستدار المصحف واستقر بين يديه وسالت عليه الدماء ، وجاء سودان ليضربه ، فأكبت عليه امرأته واتقت السيف بيدها ، فنفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت ، فغمز أوراكها وقال : إنها لكبيرة العجز ! وضرب عثمان فقتله .

وقيل : الذي قتله كنانة بن بشر التجيبي . وكان عثمان رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة يقول له : إنك تفطر الليلة عندنا . فلما قتل سقط من دمه على قوله تعالى : ( فسيكفيكهم الله ) . ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه ، وكان عثمان قد أعتق من كف يده منهم ، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله ، ووثب قتيرة على الغلام فقتله ، وانتهبوا ما في البيت وخرجوا ، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى ، فلما خرجوا [ ص: 545 ] وثب غلام لعثمان على قتيرة فقتله ، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النساء ، وأخذ كلثوم التجيبي ملاءة من على نائلة ، فضربه غلام لعثمان فقتله ، وتنادوا : أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه ، فسمع أصحاب بيت المال كلامهم وليس فيه إلا غرارتان ، فقالوا : النجاء فإن القوم إنما يحاولون الدنيا ! فهربوا ، وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس .

وقيل إنهم ندموا على قتله . وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات ، قال : فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله - تعالى - وأما ست فلما كان في صدري عليه . وأرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين ، فصاحتا وضربتا الوجوه . فقال ابن عديس : اتركوه . وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه ، فكسر ضلعا من أضلاعه وقال : سجنت أبي حتى مات في السجن .

وكان قتله لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين يوم الجمعة ، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما ، وقيل : إلا ثمانية أيام ، وقيل : بل كان قتله لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، وقيل : بل قتل أيام التشريق وكان عمره اثنتين وثمانين سنة ، وقيل : ثمانيا وثمانين سنة ، وقيل : تسعين سنة ، وقيل : خمسا وسبعين سنة ، وقيل : ستا وثمانين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية