الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكره ) تحريما ، وكل ما لا يجوز مكروه ( صلاة ) مطلقا ( ولو ) قضاء أو واجبة أو نفلا أو ( على جنازة وسجدة تلاوة [ ص: 371 ] وسهو ) لا شكر قنية ( مع شروق ) إلا العوام فلا يمنعون من فعلها ; لأنهم يتركونها ، والأداء الجائز عند البعض أولى من الترك كما في القنية وغيرها ( واستواء ) إلا يوم الجمعة على قول الثاني [ ص: 372 ] المصحح المعتمد ، كذا في الأشباه .

ونقل الحلبي عن الحاوي أن عليه الفتوى ( وغروب ، إلا عصر يومه ) فلا يكره فعله لأدائه كما وجب [ ص: 373 ] بخلاف الفجر ، والأحاديث تعارضت فتساقطت كما بسطه صدر الشريعة .

التالي السابق


( قوله : وكره إلخ ) أورد أن بعض الصلوات لا تنعقد في هذه الأوقات فلا يناسبه التعبير بالكراهة . وأجاب عنه في شرح المنية تبعا للفتح بجوابين ، حيث قال : استعمل الكراهة هنا بالمعنى اللغوي فيشمل عدم الجواز وغيره مما هو مطلوب العدم ، أو هو بالمعنى العرفي والمراد كراهة التحريم لما عرف من أن النهي الظني الثبوت غير المصروف عن مقتضاه يفيد كراهة التحريم . وإن كان قطعي الثبوت فالتحريم وهو في مقابلة الفرض في الرتبة وكراهة التحريم في رتبة الواجب والتنزيه في رتبة المندوب ، والنهي الوارد هنا من الأول فكان الثابت به كراهة التحريم ، وهي إن كانت لنقصان في الوقت منعت الصحة فيما سببه كامل وإلا أفادت الصحة مع الإساءة ا هـ وقد أشار الشارح إلى الجوابين مقدما الثاني منهما على الأول .

( قوله : مطلقا ) فسره بما بعده .

( قوله : أو على جنازة ) أي إذا حضرت في ذلك الوقت وكذا قوله وسجدة تلاوة أي إذا تليت فيه وإلا فلا كراهة كما سيذكره الشارح .

( قوله : وسجدة تلاوة ) منصوب [ ص: 371 ] عطفا على الجار والمجرور الذي هو خبر كان المقدرة ح . والأحسن رفعه عطفا على صلاة نائب فاعل كره ليكون مقابلا للصلاة ; لأن سجدة التلاوة ليست صلاة حقيقية فافهم .

( قوله : وسهو ) حتى لو سها في صلاة الصبح أو في قضاء فائتة بعد العصر فطلعت الشمس أو احمرت عقب السلام سقط عنه سجود السهو ; لأنه لجبر النقصان المتمكن في الصلاة فجرى مجرى القضاء وقد وجب كاملا فلا يتأدى في ناقص حلية .

( قوله : لا شكر قنية ) هذا مذكور في غير محله . والمناسب ذكره عقب قوله الآتي وسجدة تلاوة ; لأن عبارة القنية يكره أن يسجد شكرا بعد الصلاة في الوقت الذي يكره فيه النفل ولا يكره في غيره . ا هـ . وفي النهر أن سجدة الشكر لنعمة سابقة ينبغي أن تصح أخذا من قولهم ; لأنها وجبت كاملة وهذه لم تجب ا هـ فتحصل من كلام النهر مع كلام القنية أنها تصح مع الكراهة : أي لأنها في حكم النافلة ، ثم قال في النهر عن المعراج : وأما ما يفعل عقب الصلاة من السجدة فمكروه إجماعا ; لأن العوام يعتقدون أنها واجبة أو سنة ا هـ أي وكل جائز أدى إلى اعتقاده ذلك كره .

( قوله : مع شروق ) وما دامت العين لا تحار فيها في حكم الشروق كما تقدم في الغروب أنه لا يصح كما في البحر ح . أقول : ينبغي تصحيح ما نقلوه عن الأصل للإمام محمد من أنه ما لم ترتفع الشمس قدر رمح فهي في حكم الطلوع ; لأن أصحاب المتون مشوا عليه في صلاة العيد حيث جعلوا أول أوقاتها من الارتفاع ولذا جزم به هنا في الفيض ونور الإيضاح .

( قوله : فلا يمنعون من فعلها ) أفاد أن المستثنى المنع لا الحكم بعد الصحة عندنا فالاستثناء منقطع والضمير للصلاة والمراد بها صلاة الصبح .

( قوله : عند البعض ) أي بعض المجتهدين كالإمام الشافعي هنا .

( قوله : كما في القنية وغيرها ) وعزاه صاحب المصفى إلى الإمام حميد الدين عن شيخه الإمام المحبوبي وإلى شمس الأئمة الحلواني ، وعزاه في القنية إلى الحلواني والنسفي فسقط ما قيل إن صاحب القنية بناه على مذهب المعتزلة من أن العامي له الخيار من كل مذهب ما يهواه . والصحيح عندنا أن الحق واحد ، وأن تتبع الرخص فسق . ا هـ .

( قوله : واستواء ) التعبير به أولى من التعبير بوقت الزوال ; لأن وقت الزوال لا تكره فيه الصلاة إجماعا بحر عن الحلية : أي لأنه يدخل به وقت الظهر كما مر . وفي شرح النقاية للبرجندي : وقد وقع في عبارات الفقهاء أن الوقت المكروه هو عند انتصاف النهار إلى أن تزول الشمس ولا يخفى أن زوال الشمس إنما هو عقيب انتصاف النهار بلا فصل ، وفي هذا القدر من الزمان لا يمكن أداء صلاة فيه ، فلعل أنه لا تجوز الصلاة بحيث يقع جزء منها في هذا الزمان ، أو المراد بالنهار هو النهار الشرعي وهو من أول طلوع الصبح إلى غروب الشمس ، وعلى هذا يكون نصف النهار قبل الزوال بزمان يعتد به . ا هـ . إسماعيل ونوح وحموي .

وفي القنية : واختلف في وقت الكراهة عند الزوال ، فقيل من نصف النهار إلى الزوال لرواية أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ( { أنه نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس } ) قال ركن الدين الصباغي : وما أحسن هذا ; لأن النهي عن الصلاة فيه يعتمد تصورها فيه ا هـ وعزا في القهستاني القول بأن المراد انتصاف النهار العرفي إلى أئمة ما رواه النهر ، وبأن المراد انتصاف النهار الشرعي وهو الضحوة الكبرى إلى الزوال إلى أئمة جوارزم .

( قوله : إلا يوم الجمعة ) لما رواه الشافعي في مسنده " { نهي عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة } " [ ص: 372 ] قال الحافظ ابن حجر : في إسناده انقطاع ، وذكر البيهقي له شواهد ضعيفة إذا ضمت قوي . ا هـ .

( قوله : المصحح المعتمد ) اعترض بأن المتون والشروح على خلافه .

( قوله : ونقل الحلبي ) أي صاحب الحلية العلامة المحقق ابن أمير حاج عن الحاوي : أي الحاوي القدسي كما رأيته فيه ، لكن شراح الهداية انتصروا لقول الإمام . وأجابوا عن الحديث المذكور بأحاديث النهي عن الصلاة وقت الاستواء فإنها محرمة . وأجاب في الفتح بحمل المطلق على المقيد ، وظاهره ترجيح قول أبي يوسف ، ووافقه في الحلية كما في البحر ، لكن لم يعول عليه في شرح المنية والإمداد ، على أن هذا ليس من المواضع التي يحمل فيها المطلق على المقيد كما يعلم من كتب الأصول ، وأيضا فإن حديث النهي صحيح رواه مسلم وغيره فيقدم بصحته ، واتفاق الأئمة على العمل به وكونه حاظرا ، ولذا منع علماؤنا عن سنة الوضوء وتحية المسجد وركعتي الطواف ونحو ذلك ، فإن الحاظر مقدم على المبيح .

[ تنبيه ] علم مما قررناه المنع عندنا وإن لم أره مما ذكره الشافعية من إباحة الصلاة في الأوقات المكروهة في حرم مكة استدلالا بالحديث الصحيح ( { يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار } ) فهو مقيد عندنا بغير أوقات الكراهة ، لما علمته من منع علمائنا عن ركعتي الطواف فيها وإن جوزوا نفس الطواف فيها خلافا لمالك كما صرح به في شرحه اللباب ، والله أعلم . ثم رأيت المسألة عندنا قال في الضياء ما نصه : وقد قال أصحابنا : إن الصلاة في هذه الأوقات ممنوع منها بمكة وغيرها ا هـ . ورأيت في البدائع أيضا ما نصه : ما ورد من النهي إلا بمكة شاذ لا يقبل في معارضه المشهور ، وكذا رواية استثناء يوم الجمعة غريب فلا يجوز تخصيص المشهور به ا هـ ولله الحمد .

( قوله : وغروب ) أراد به التغير كما صرح به في الخانية حيث قال عند احمرار الشمس إلى أن تغيب بحر و قهستاني .

( قوله : إلا عصر يومه ) قيد به ; لأن عصر أمسه لا يجوز وقت التغير لثبوته في الذمة كاملا ، لاستناد السببية فيه إلى جميع الوقت كما مر .

( قوله : فلا يكره فعله ) لأنه لا يستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به ، وقيل الأداء أيضا مكروه . ا هـ . كافي النسفي .

والحاصل أنهم اختلفوا في الكراهة في التأخير فقط دون الأداء أو فيهما ، فقيل بالأول ونسبه في المحيط والإيضاح إلى مشايخنا ، وقيل بالثاني وعليه مشى في شرح الطحاوي والتحفة والبدائع والحاوي وغيرها على أنه المذهب بلا حكاية خلاف ، وهو الأوجه لحديث مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام ينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا } ا هـ حلية ، وتبعه في البحر .

ولا يخفى أن كلام الشارح ماش على الأول لا الثاني ، فافهم ، قال في القنية : ويستوفي سنة القراءة ; لأن الكراهة في التأخير لا في الوقت . ا هـ .

( قوله : لأدائه كما وجب ) لأن السبب هو الجزء الذي يتصل به الأداء ، وهو هنا ناقص فقد وجب ناقصا فيؤدى كذلك . وأما عصر أمسه فقد وجب كاملا ; لأن السبب فيه جميع الوقت حيث لم يحصل الأداء في جزء منه ، لكن الصحيح الذي عليه المحققون أنه لا نقصان في ذلك الجزء نفسه بل في الأداء فيه لما فيه من التشبه بعبدة الشمس ، ولما كان الأداء واجبا فيه تحمل ذلك النقصان ، أما إذا لم يؤد فيه والحال أنه لا نقص في الوقت أصلا وجب الكامل ، ولهذا كان الصحيح وجوب القضاء في كامل على من بلغ وأسلم في ناقص ولم يصل فيه كما تقدم .

والحاصل كما في الفتح أن معنى نقصان الوقت نقصان ما اتصل به فعل الأركان المستلزم للتشبه بالكفار ، [ ص: 373 ] فالوقت لا نقص فيه ، بل هو كغيره من الأوقات إنما النقص في الأركان فلا يتأدى بها ما وجب كاملا ، وهذا أيضا مؤيد للقول بأن الكراهة في التأخير والأداء خلاف ما مشى عليه الشارح ، وما ذكره في النهر بحثا لبعض الطلبة مذكور مع جوابه في شرح المنية وغيره ، وأوضحناه فيما علقناه على البحر .

( قوله : بخلاف الفجر إلخ ) أي فإنه لا يؤدي فجر يومه وقت الطلوع ; لأن وقت الفجر كله كامل فوجبت كاملة ، فتبطل بطرو الطلوع الذي هو وقت فساد .

قال في البحر : فإن قيل : روى الجماعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح } " أجيب بأن التعارض لما وقع بينه وبين النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة رجعنا إلى القياس كما هو حكم التعارض ، فرجحنا حكم هذا الحديث في صلاة العصر وحكم النهي في صلاة الفجر ، كذا في شرح النقاية . ا هـ .

على أن الإمام الطحاوي قال : إن الحديث منسوخ بالنصوص الناهية ، وادعى أن العصر يبطل أيضا كالفجر وإلا لزم العمل ببعض الحديث وترك بعضه بمجرد قولنا طرأ ناقص على كامل في الفجر ، بخلاف عصر يومه مع أن النقص قارن العصر ابتداء والفجر بقاء فيبطل فيهما . وأجاب في البرهان بأن هذا الوقت سبب لوجوب العصر حتى يجب على من أسلم أو بلغ فيه ويستحيل أن يكون سببا للوجوب ولا يصح الأداء فيه ، وتمامه في حاشية نوح




الخدمات العلمية