الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4 - ( 4 ) - حديث : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } . الشافعي [ ص: 19 ] وأحمد والأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، والدارقطني والبيهقي ، من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه ، ولفظ أبي داود : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء . وما ينوبه من السباع والدواب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث }ولفظ الحاكم فقال : { إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء }. وفي رواية لأبي داود وابن ماجه : " فإنه لا ينجس " قال الحاكم : صحيح على شرطهما ، وقد احتجا بجميع رواته .

وقال ابن منده : إسناده على شرط مسلم ، ومداره على الوليد بن كثير ، فقيل : عنه ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وقيل : عنه ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، وتارة : عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وتارة : عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، والجواب : أن هذا ليس اضطرابا ، قادحا فإنه على تقدير أن يكون الجميع محفوظا انتقال من ثقة إلى ثقة ، وعند التحقيق : الصواب أنه عن الوليد بن كثير ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المكبر ، وعن محمد بن جعفر بن الزبير ، وعن عبد الله بن عبد الله بن عمر المصغر ، [ ص: 20 ] ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم .

وقد رواه جماعة ، عن أبي أسامة ، عن الوليد بن كثير على الوجهين ، وله طريق ثالثة رواها الحاكم وغيره ، من طريق حماد بن سلمة ، عن عاصم بن المنذر ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، وسئل ابن معين عن هذه الطريق ، فقال : إسناد جيد ، قيل له : فإن ابن علية لم يرفعه ؟ فقال : وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد . وقال ابن عبد البر في التمهيد : ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين ، مذهب ضعيف من جهة النظر ، غير ثابت من جهة الأثر ، لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم ، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع . وقال في الاستذكار : حديث معلول ، رده إسماعيل القاضي ، وتكلم فيه .

وقال الطحاوي : إنما لم نقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت ، وقال ابن دقيق العيد : هذا الحديث قد صححه بعضهم ، وهو صحيح على طريقة الفقهاء ، لأنه وإن كان مضطرب الإسناد مختلفا في بعض ألفاظه ، فإنه يجاب عنها بجواب صحيح ; بأن يمكن الجمع بين الروايات ولكني تركته لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعا .

تعيين مقدار القلتين ، قلت : كأنه يشير إلى ما رواه ابن عدي من حديث ابن عمر : { إذا بلغ الماء قلتين ، من قلال هجر ، لم ينجسه شيء }وفي إسناده المغيرة بن سقلاب ، وهو منكر الحديث ، قال النفيلي : لم يكن مؤتمنا على الحديث ، وقال ابن عدي : لا يتابع على عامة حديثه . وأما ما اعتمده الشافعي في ذلك فهو ما ذكره في الأم والمختصر بعد أن روى حديث ابن عمر ، قال : أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن جريج ، بإسناد لا يحضرني ذكره : أن [ ص: 21 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا } ، وقال في الحديث : " بقلال هجر " ، قال ابن جريج : ورأيت قلال هجر ، فالقلة تسع قربتين ، أو قربتين وشيئا ، قال الشافعي : فالاحتياط أن تكون القلة قربتين ونصفا ، فإذا كان الماء خمس قرب ، لم يحمل نجسا في جر كان أو غيره ، وقرب الحجاز كبار ، فلا يكون الماء الذي يحمل النجاسة إلا بقرب كبار انتهى كلامه .

وفيه مباحث :

( الأول ) في تبيين الإسناد الذي لم يحضر الشافعي ذكره .

( والثاني ) في كونه متصلا أم لا .

( والثالث ) في كون التقييد بقلال هجر في المرفوع .

( والرابع ) في ثبوت كون القربة كبيرة لا صغيرة .

( الخامس ) في ثبوت التقدير للقلة بالزيادة على القربتين .

( فالأول ) في بيان الإسناد ، وهو ما رواه الحاكم أبو أحمد والبيهقي وغيرهما من طريق أبي قرة موسى بن طارق ، عن ابن جريج قال : أخبرني محمد ، أن يحيى بن عقيل أخبره ، أن يحيى بن يعمر أخبره ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ولا بأسا }قال : فقلت ليحيى بن عقيل : أي قلال ؟ قال : قلال هجر . قال محمد : رأيت قلال هجر ، فأظن كل قلة تأخذ قربتين . وقال الدارقطني : حدثنا أبو بكر النيسابوري ، حدثنا أبو حميد المصيصي ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج مثله ، وقال في آخره : قال : فقلت ليحيى بن عقيل : قلال هجر ؟ قال : قلال هجر . قال : فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين . قال الحاكم أبو أحمد : محمد شيخ بن جريج ، هو محمد بن يحيى ، له رواية عن يحيى بن أبي كثير ، أيضا . قلت : وكيف ما كان فهو مجهول [ ص: 22 ]

( الثاني ) في بيان كون الإسناد متصلا أم لا ، وقد ظهر أنه مرسل ; لأن يحيى بن يعمر تابعي ، ويحتمل أن يكون سمعه من ابن عمر ، لأنه معروف من حديثه ، وإن كان غيره من الصحابة رواه ، لكن يحيى بن يعمر معروف بالحمل عن ابن عمر ، وقد اختلف فيه على ابن جريج ، رواه عبد الرزاق في مصنفه عنه ، قال : حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ، ولا بأسا }قال ابن جريج : زعموا أنها قلال هجر ، قال عبد الرزاق : قال ابن جريج ، قال الذي أخبرني عن القلال : فرأيت قلال هجر بعد فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين .

( البحث الثالث ) في كون التقييد بقلال هجر ليس في الحديث المرفوع ، وهو كذلك إلا في الرواية التي تقدمت قبل ، من رواية المغيرة بن سقلاب ، وقد تقدم أنه غير صحيح . لكن أصحاب الشافعي قووا أن المراد قلال هجر ، بكثرة استعمال العرب لها في أشعارهم ، كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور ، وكذلك ورد التقييد بها في الحديث الصحيح ، قال البيهقي : قلال هجر كانت مشهورة عندهم ، ولهذا شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ليلة المعراج من نبق سدرة المنتهى : " فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر " انتهى .

فإن قيل : أي ملازمة بين هذا التشبيه ، وبين ذكر القلة في حد الماء ، فالجواب أن التقييد بها في حديث المعراج ، دال على أنها كانت معلومة عندهم ، بحيث يضرب بها المثل في الكبر ، كما أن التقييد إذا أطلق ، إنما ينصرف إلى التقييد المعهود ، وقال الأزهري : القلال مختلفة في قرى العرب ، وقلال هجر أكبرها ، وقال الخطابي : قلال هجر مشهورة الصنعة ، معلومة المقدار ، والقلة لفظ مشترك ، وبعد صرفها إلى أحد معلوماتها وهي الأواني ، تبقى مترددة بين الكبار والصغار ، والدليل على أنها من الكبار ، جعل الشارع الحد مقدرا بعدد ، فدل على أنه أشار إلى أكبرها ، لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين ، مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة ، والله أعلم ، وقد تبين بهذا محصل البحث الرابع .

( البحث الخامس ) : في ثبوت كون القلة تزيد على قربتين ، وقد طعن في [ ص: 23 ] ذلك ابن المنذر من الشافعية ، وإسماعيل القاضي من المالكية ، بما محصله : أنه أمر مبني على ظن بعض الرواة ، والظن ليس بواجب قبوله ، ولا سيما من مثل محمد بن يحيى المجهول . لهذا لم يتفق السلف ، وفقهاء الأمصار ، على الأخذ بذلك التحديد ، فقال بعضهم : القلة يقع على الكوز والجرة كبرت أو صغرت وقيل القلة مأخوذة من استقل فلان بحمله وأقله إذا أطاقه وحمله وإنما سميت الكيزان قلالا لأنها تقل بالأيدي وقيل مأخوذة من قلة الجبل وهي أعلاه فإن قيل الأولى الأخذ بما ذكره راوي الحديث لأنه أعرف بما روى قلنا لم تتفق الرواة على ذلك فقد روى الدارقطني بسند صحيح عن عاصم بن المنذر أحد رواة هذا الحديث أنه قال القلال هي الخوابي العظام قال إسحاق بن راهويه الخابية تسع ثلاث قرب وعن إبراهيم قال القلتان الجرتان الكبيرتان وعن الأوزاعي قال القلة ما تقله اليد أي ترفعه وأخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق قال القلة الجرة يستسقى فيها الماء والدورق ومال أبو عبيد في كتاب الطهور إلى تفسير عاصم بن المنذر وهو أولى وروى علي بن الجعد عن مجاهد قال القلتان الجرتان ولم يقيدهما بالكبر وعن عبد الرحمن بن المهدي ووكيع ويحيى بن آدم مثله رواه ابن المنذر .

( تنبيه ) : قوله : ينوبه هو بالنون ، أي يرد عليه نوبة بعد أخرى ، وحكى الدارقطني أن ابن المبارك صحفه فقال : يثوبه بالثاء المثلثة .

( تنبيه آخر ) : قوله : لم يحمل الخبث ، معناه لم ينجس بوقوع النجاسة فيه ، كما فسره في الرواية الأخرى التي رواها أبو داود وابن حبان وغيرهما : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس }والتقدير : لا يقبل النجاسة ، بل يدفعها عن نفسه . ولو كان المعنى : أنه يضعف عن حمله ; لم يكن للتقييد بالقلتين معنى ، فإن ما [ ص: 24 ] دونهما أولى بذلك . وقيل : معناه لا يقبل حكم النجاسة كما في قوله تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا }أي لم يقبلوا حكمها .

التالي السابق


الخدمات العلمية