الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ذلك خير وأحسن تأويلا هذا بيان لفائدة هذه الأحكام أو هذا الرد في الدنيا بعد بيان فائدته في الآخرة ، كما هو اللائق بدين الفطرة الجامع بين مصالح الدارين ، أي : ذلك الذي شرعناه لكم في تأسيس حكومتكم ، وإصلاح أمركم ، أو ذلك الرد للشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله خير لكم في نفسه ; لأنه أقوى أساس لحكومتكم والله أعلم منكم بما هو خير لكم ، فلم يشرع لكم في كتابه وعلى لسان رسوله من الأصول والقواعد إلا ما هو قيام لمصالحكم ومنافعكم ، وهو على كونه خيرا في نفسه أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة ; لأنه يقطع عرق التنازع ويسد ذرائع الفتن والمفاسد .

                          [ ص: 157 ] الأستاذ الإمام : قيل إن الشرط متعلق بالأخير وهو الرد إلى الله والرسول ، والغرض منه تذكيرهم بالله حتى لا يستعملوا شهواتهم وحظوظهم في الرد ، وقيل : متعلق بكل ما تقدم من طاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر ، وهو الظاهر ، وجمهور المفسرين على أنه تهديد من الله تعالى لمن يخالف أمرا من هذه الأوامر ، وإخراج له من حظيرة الإيمان ، ومعنى كونه خيرا : أنه أنفع من كل ما عداه ، ولو جرى المسلمون عليه لما أصابهم ما أصابهم من الشقاء ، فقد رأينا كيف سعد المهتدون به ، وكيف شقي الذين أعرضوا عنه واستبدوا بالأمر ، وأما كونه أحسن تأويلا فهو أن الأوامر والأحكام إنما تكون صورا معقولة وعبارات مقولة حتى يعمل بها فتظهر فائدتها وأثرها ، فعلمنا بالآخرة ليس إلا صورا ذهنية لا نعرف الحقائق التي تنطبق عليها إلا إذا صرنا إليها .

                          أقول : تلك أصول الشريعة الإسلامية المدنية السياسية القضائية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ولا تبصر فيها غلا ولا قيدا ، وليس فيها عسر ولا حرج ، ولا مجال فيها للاضطراب والهرج ، ولكن لم يعمل بها إلا الخلفاء الراشدون عليهم الرضوان ، بحسب ما اقتضته حال الأمة في ذلك الزمان ، فكانوا مع ذلك حجة الله على نوع الإنسان ، إذ لم تكتحل بمثل عدلهم عين الدنيا إلى الآن .

                          وإذا كان الله تعالى قد أكمل لنا بالإسلام دين الأنبياء أصولا وفروعا ، ووضع لنا أصول الكمال للشريعة المدنية ، ووكل إلينا أمر الترقي فيها بمراعاة تلك الأصول ، فكان ينبغي لنا بعد اتساع ملك الإسلام ودخول الممالك العامرة التي سبقت لها المدنية في دائرة سلطانه أن نرتقي في نظام الحكومة المدنية ، ويكون خلفنا فيها أرقى من سلفنا لما للخلف من أسباب ووسائل هذا الترقي ، ولكنهم حولوا الحكومة عن أسباب الشورى كما تقدم ، وأضاعوا الأصول التي أمروا بإقامتها في هذه الآية ، فجرى أكثرهم على أن أولي الأمر هم أفراد الأمراء والسلاطين ، وإن كانوا جائرين ، ومنهم من قال : إنهم العلماء المجتهدون في الفقه خاصة ، ثم قالوا : إنهم قد انقرضوا ، وأنه لا يجوز أن يخلفهم أحد وأن الإجماع خاص بهم ، وكذلك استنباط الأحكام الفرعية خاص بهم ، ومهما اشتدت حاجة المسلمين إلى استنباط أحكام لوقائع وأقضية جديدة ، فلا يجوز لأحد أن يستنبط لها حكما ، وأن ما تنازع فيه المسلمون لا يجوز رده إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة والعمل بما يهديان إليه ، بل يجب أن يقلد كل طائفة من المسلمين من شاءوا من المختلفين في الأحكام الشخصية ويتبعوا الحكام في غيرها ، ولا ضرر في اختلافهم وتفرقهم شيعا ، وإن تفرقت كلمتهم في الأحكام والقضايا وفي العبادات حتى صار الحنفي يمكث في المسجد وإمام الشافعية يصلي الصبح بالمنتسبين إلى مذهبه فلا يصلي هذا الحنفي معهم حتى يجيء إمام مذهبه فيأتم به .

                          [ ص: 158 ] وقف المسلمون في دينهم وشريعتهم عند الكتب التي ألفها المقلدون في القرون الوسطى وما بعدها ، ولكن الزمان ما وقف حتى صار حكامهم فريقين كما تقدم ، وصار الناس ينسبون كل ما هم عليه من الضعف والوهن والجهل والفقر إلى دينهم وشريعتهم ، وسرى هذا الاعتقاد إلى الذين يتعلمون علوم أوربا وقوانينها ، فمنهم من مرق من الإسلام وفضل تلك القوانين على الشريعة ، اعتقادا منهم أن الشريعة هي ما يعرفه من كتب الفقه ، وهو لا يعرف من القرآن ولا من السنة شيئا ، ومنهم من تركوا العمل بهذا الفقه في السياسة وأحكام العقوبات ، وأحكام المعاملات المدنية ، واستبدل بها القوانين الأوربية ، فصارت حكومتهم أمثل مما كانت عليه فقويت بذلك حجة أهل القوانين الوضعية على أهل الشريعة الإلهية ، فظنوا أنها حجة على الشريعة نفسها ، وقام طلاب إصلاح الحكومة في الدولتين العثمانية والإيرانية من المتفرنجين يطلبون تقليد الإفرنج في إصلاح قوانين حكومتيهما ; لأنهم جاهلون بما في القرآن الحكيم من أصول حكومة الشورى وتفويضها إلى أولي الأمر الذين تثق بهم الأمة وتعول على رأيهم .

                          إذا كان فقهاؤهم لا يبالون بما يقول فينا أهل العصر لأجلهم ولأجل بعض كتب الفقه ، فيجب أن يبالوا ولا يرضوا بأن ينسب الجمود إلى أصل الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، نعم إنهم لا ينكرون هذه الأصول ، ولكنهم يقولون : إنه لا يوجد في المسلمين الآن ولا قبل الآن بقرون من هم أهل للإجماع ولا لاستنباط الأحكام التي تحتاج إليها الأمة من الكتاب والسنة ، وما دام المسلمون راضين بهذا الحكم عليهم ، فإن حالهم لا تتغير ، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

                          ثم أقول بعد هذا : إنه قد بقي في الآية مباحث لا يتجلى معناها تمام التجلي وتتم الفائدة منه إلا بها ، فنأتي بما يفتح الله تعالى به منها ، وإن كان فيه شيء من تكرار بعض ما تقدم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية