الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عنه قال { : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على حائط فأعجبه فقال : لمن هذا الحائط فقلت لي استأجرته فقال صلى الله عليه وسلم : لا تستأجره بشيء منه } وفيه دليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه من الدنيا ما يعجب غيره ولكنه كان لا يركن إليه كما قال الله تعالى { : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به } . الآية

وهذا القدر من الإعجاب لا يضر أحدا بخلاف ما يقوله جهال المتعسفة أن من أعجبه شيء من الدنيا ينتقص من الإيمان بقدره فكيف يستقيم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة } فلما أعجبه قال : صلى الله عليه وسلم لمن هذا وفيه بيان أن هذا ليس من جملة ما لا يعني المرء فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتكلم بما لا يعنيه ولكنه من باب الاستئناس وحسن الصحبة وفي قول رافع رضي الله عنه لي استأجرته دليل على أن الشيء يضاف إلى المرء ، وإن كان لا يملكه حقيقة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه ; ولهذا قلنا : من حلف أن لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان بإجارة ، أو عارية حنث

وفي الحديث دليل جواز الاستئجار للأراضي ودليل فساد عقد المزارعة ففي المزارعة استئجار الأرض ببعض ما تخرجه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج رضي الله عنه عن استئجار الأرض بشيء منه فهو حجة أبي حنيفة رضي الله عنه على من أجازه وعن الشعبي رحمه الله في رجل استأجر بيتا وأجره بأكثر مما استأجره به أنه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل وفيه دليل أن للمستأجر أن يؤجر من غيره وبه يقول : فجواز هذا العقد من المالك قبل وجود المنفعة كان بالطريق الذي قلنا وهو موجود في حق المستأجر ولأن المالك ما كان يتمكن من مباشرة العقد عليها بعد الوجود ; لأنها لا تبقى ، فكذلك المستأجر ، ثم بين أنه إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملا نحو فتح الباب وإخراج المتاع فيكون الفضل له بإزاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف رحمهم الله كان عطاء رحمه الله لا يرى بالفضل بأسا ويعجب من قوله أهل الكوفة رحمهم الله حيث كرهوا الفضل ، وبقوله أخذ الشافعي رضي الله عنه ، وكان إبراهيم رحمه الله يكره الفضل إلا أن يزيد فيه شيئا فإن زاد فيه شيئا طاب له الفضل وأخذنا بقول إبراهيم رحمه الله وقلنا إذا أصلح في البيت شيئا ، أو طين البيت ، أو جصص ، أو زاد فيه لوحا فالفضل حلال ; لأن الزيادة بمقابلة ما زاد من عنده حملا لأمره على الصلاح ، وإن لم يزد فيه شيئا لا يطيب له فضل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 79 ] عن ربح ما لم يضمن ، والمنفعة بالعقد لم تدخل في ضمان المستأجر فيكون هذا استرباحا على ما لم يضمنه فعليه أن يتصدق به للنهي عنه ، وكنس البيت ليس بزيادة فيه إنما هو إخراج التراب منه فلا يطيب الفضل باعتباره ، وكذلك فتح الباب وإخراج المتاع ليس بزيادة في البيت فلا يطيب الفضل باعتباره إلا أن يكون شرط له من ذلك شيئا معلوما في العقد فحينئذ يكون الفضل بمقابلته ويطيب له وهو تأويل حديث الشعبي رضي الله عنه

وعن إبراهيم رحمه الله أنه كان يعجبهم إذا أبضعوا بضاعة أن يعطوا صاحبها أجرا كي يضمنها وهذا منه إشارة إلا أنه قول من كان قبله من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فيكون دليلا لمن يضحي الأجير المشترك ; لأن المستبضع إذا أخذ أجرا فهو أجير على الحفظ وهو أجير مشترك ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول : ليس فيه بيان السبب الذي به يضمنها فيحتمل أن يكون المراد كي يضمن ما يتلف بعمله مما يكون قصد به الإصلاح دون الإفساد وبه نقول ، فالأجير المشترك ضامن ; لما جنت يده وعن شريح رحمه الله أنه خاصم إليه يقال : قد أجره رجل بيتا فألقى فيه مفتاحه في وسط الشهر فقال شريح رحمه الله هو بريء من البيت وكان هذا مذهب شريح في الإجارة أنه لا يتعلق بها اللزوم فلكل واحد منهما أن ينفرد بفسخه ; لأنه عقد على المعدوم بمنزلة العارية ولأن الجواز للحاجة ولا حاجة إلى إثبات صفة اللزوم ولسنا نأخذ في هذا بقوله فالإجارة عقد معاوضة واللزوم أصل في المعاوضات ولأن في المعاوضات يجب النظر من الجانبين ولا يعتدل النظر بدون صفة اللزوم .

ثم أخذ أبو حنيفة رحمه الله بحديث شريح رضي الله عنه من وجه فقال : إن ألقى إليه المفتاح بعذر له فهو بريء من البيت والعذر أن يريد سفرا ، أو يمرض فيقوم ، أو يفلس فيقوم من السوق وما أشبه ذلك وهذا ; لأن شريحا رحمه الله أفتى بضعف هذا العقد ولكن جعله في الضعف نهاية ; حيث قال ينفرد بالفسخ سواء كان له عذر ، أو لم يكن ومن يقول : لا ينفرد بالفسخ مع وجود العذر فقد جعله نهاية في القوة وفي الجانبين معنى الضرر فإنما يعتدل النظر ويندفع الضرر بما قلنا ; لأن عند الفسخ تعذر بقصد دفع الضرر عن نفسه وعند الفسخ بغير عذر يقصد الإضرار بالغير ولأن العقد معاوضة وهو دليل قوته وعدم ما يضاف إليه العقد عند العقد دليل ضعفه وما يجاذبه دليلان يوفر حظه عليهما فدليل القوة قلنا لا ينفسخ بغير عذر ولدليل الضعف قلنا ينفسخ بالعذر ; لأن صفة المعاوضة لا تمنع الفسخ عند الحاجة إلى دفع الضرر كالمشتري يرد المبيع بالعيب ، وظاهر ما يقوله في الكتاب أنه ينفسخ العقد عن العذر بفعل المشتري ، ولكن [ ص: 80 ] الأصح ما ذكره في الزيادات أن القاضي هو الذي يفسخ العقد بينهما إذا أثبت العذر عندهما في الرد بالعيب وجه هذه الرواية أن المستأجر غير قابض للمنفعة حتى لم يدخل في ضمانه فيكون هذا بمنزلة الرد بالعيب قبل القبض ينفرد به من غير قضاء

وجه تلك الرواية أن عين الحانوت أقيم مقام المعقود عليه في حكم انعقاد العقد ، فكذلك في حكم الفسخ وهو قابض للحانوت فكان هذا نظير الرد بالعيب بعد القبض ; فلهذا لا يتم إلا بالقضاء وعن إبراهيم رحمه الله أنه كان لا يضمن الأجير ولا غيره ، وفسر الأجير المشترك في الكتاب بالقصار والخياط والإسكاف وكل من يقبل الأعمال من غير واحد وأجير الواحد أن يستأجر الرجل الرجل ليخدمه شهرا ، أو ليخرج معه إلى مكة وما أشبه ذلك مما لا يستطيع الأجير أن يؤجر فيه نفسه من غيره والحاصل أن أجير الواحد من يكون العقد واردا على منافعه ولا تصير منافعه معلومة إلا بذكر المدة ، أو بذكر المسافة ومنافعه في حكم العين فإن صارت مستحقة بعقد المعاوضة لا يتمكن من إيجابها لغيره

والأجير المشترك من يكون عقده واردا على عمل هو معلوم ببيان محله ; لأن المعقود عليه في حقه الوصف الذي يحدث في العين بعمله ، فلا يحتاج إلى ذكر المدة ، ولا يمتنع عليه بعمل مثل ذلك العمل من غيره ; لأن ما استحقه الأول في حكم الدين في ذمته ، وهو نظير السلم مع بيع العين فإن المسلم فيه لما كان دينا في ذمته لا يتعذر عليه به قبول السلم من غيره والبيع لما كان يلاقي العين فبعد ما باعه من إنسان لا يملك بيعه من غيره ; ولهذا سمي هذا مشتركا والأول أجير الوحدة ، ثم أخذ أبو حنيفة رحمه الله بقول إبراهيم رضي الله عنه إذا تلفت العين بغير صنعه فلا ضمان عليه سواء كان أجيرا واحدا ، أو مشتركا تلف بما يمكن الاحتراز عنه ، أو بما لا يمكن وأخذ به أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في أجير الواحد أيضا وفي الأجير المشترك أخذ بقول شريح رحمه الله على ما روي عنه بعد هذا أنه كان يضمن الأجير المشترك

والاختلاف فيه بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك ما ضاع على يده

وعن علي رضي الله عنه أنه كان لا يضمن القصار والصباغ ونحوهما فلأجل الاختلاف اختار المتأخرون رحمهم الله الفتوى بالصلح على النصف ، وسنقرر هذه المسائل بطريق المعنى في مواضعها إن شاء الله تعالى ، وذكر شريح رحمه الله أنه كان يضمن الملاح كل شيء إلا الغرق والحرق ، والملاح أجير مشترك وقد بينا أن من مذهب شريح رحمه الله أن الأجير المشترك ضامن . [ ص: 81 ] إلا ما لا يمكن التحرز عنه والذي لا يمكن التحرز عنه هو الحرق الغالب ، أو الغرق الغالب ، وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول : إن غرقت من مده ، أو معالجته فهو ضامن ; لأن التلف بفعله والأجير المشترك ضامن ; لما جنت يده ، وإن احترقت من نار أدخلها السفينة لجاجة له من خبز ، أو طبخ ، أو غيره فلا ضمان عليه ; لأن السفينة كالبيت فلا يكون هو متعديا في إدخال النار السفينة لحاجته ، وإذا كان التلف غير مضاف إليه تسببا ولا مباشرة لم يكن ضامنا

وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يضمن الأجير المشترك ولكنه كان يقول : لا ضمان على الملاح في الماء خاصة ، وإن غرقت السفينة من مده ; لأن الغرق غالب لا يمكن الاحتراز عنه فهو كالحرق الغالب والغارة الغالبة ولكنا نقول : الاحتراز ممكن بمنع السفينة عند المد والمعالجة من موضع الغرق فإذا حصل التلف بعمله كان ضامنا وعن شريح رحمه الله أنه أتاه رجل بصباغ فقال : إني أعطيت هذا ثوبي ليصبغه فاحترق بيته فقال له شريح رحمه الله : اضمن له ثوبه ، فقال الصباغ : كيف أضمن له ثوبه وقد احترق بيتي فقال له شريح : أرأيت لو احترق بيته أكنت تدع له أجرك ؟ وكان هذا الحرق لم يكن غالبا وكان من مذهب شريح رحمه الله تضمين الأجير المشترك فيما يمكن التحرز عنه فكأنه عرف إمكان التحرز عنه بإخراج الثوب من البيت أو بإمكان إطفاء النار ولكنه تهاون فلم يفعل ; فلهذا قال له : اضمن له ثوبه ، ثم احتج عليه الصباغ وقال : كيف أضمن له وقد احترق بيتي ؟ وكأنه ادعى بهذا أن الحرق كان غالبا ولم يصدقه شريح رحمه الله لعلمه بخلاف قوله ، ثم قال : أرأيت لو احترق بيته كنت تدع له أجرك ؟ ومعنى استدلاله هذا أن الحفظ مستحق له عليك والأجر لك عليه فكما لا يسقط ما هو مستحق لك باحتراق بيته ، فكذلك لا يسقط ما هو مستحق له باحتراق بيتك ولو كان هذا الصباغ فقيها لبين الفرق ويقول له : أيها القاضي قياسك فاسد ; فالأجر لي في ذمته وباحتراق بيته لا يفوت محل حقي ، وحقه في عين الثوب وباحتراق بيتي يفوت محل حقه ولكن لم يحضره هذا الفرق أو احتشمه فلم يعارضه والتزم حكمه وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن احترق بيته بعمل هو متعد فيه فهو ضامن ، وإن كان بغير عمله فلا ضامن عليه ولا ضمان على أجير الواحد إلا إذا خالف ما أمر به وذكر عن أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه كان يضمن الخياط والقصار وغيرهما من الصناع احتياطا للناس أن لا يضيعوا متاعهم

وعن أبي جعفر أيضا أن عليا رضي الله عنه لم يكن يضمن القصار في الرواية والصباغ والصائغ ، ونحو ذلك عن بكير بن الأشج [ ص: 82 ] قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضمن الصياغ ما أفسدوا من متاع الناس ، أو ضاع على أيديهم وقد بينا اختلافهم فيما إذا حصل التلف بغير صنع الأجير وفي هذا دليل على اجتماعهما على تضمين الأجير المشترك ; لما جنت يده ; لأن قوله : ما أفسدوا من متاع الناس عبارة عن التلف بعلمهم فهو دليل على زفر والشافعي رحمهما الله لنا ; فإنهما يقولان : لا يضمن ما جنت يده وسيأتيك بيان المسألة في موضعه إن شاء الله تعالى وعن إبراهيم بن أبي الهيثم رحمه الله اتبعت كاذيا من السفن فحملت خوابي منها حمالا فانكسرت الخابية فخاصمته إلى شريح رحمه الله ، فقال الحمال : زاحمني الناس في السوق فانكسرت قال شريح رحمه الله إنما استأجرك لتبلغها أهله فضمنه أياها ، والكاذي دهن تحمل من الهند في السفن إلى العراق وقيل : هو اسم ; لما يتخذه راكب السفينة من الأواني كالأمتعة لحاجته فيسع ذلك إذا خرج من السفينة

وقد بينا أنه كان من مذهب شريح رحمه الله تضمين الأجير المشترك بما يمكن التحرز عنه من الأسباب والحمال أجير مشترك وكثرة الزحام مما يمكن التحرز عنه بأن يصبر حتى يقل الزحام ; فلهذا ضمنه ، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا ضمان على الحمال فيما تلف في يده بفعل غيره وهو ضامن إذا تعثر ، أو زلقت رجله ; لأن ذلك من فعله والقول قوله بعد أن يحلف ; لأنه أمين عنده فإذا أنكر السبب الموجب للضمان عليه كان القول قوله مع يمينه ، وعن ابن سيرين رحمه الله قال : كان شريح رحمه الله إذا أتاه حائك بثوب قد أفسده قال : رد عليه مثل غزله وخذ الثوب ، وإن لم ير فسادا قال علي بشاهدي عدل على شرط لم يوفك به وفيه دليل على أن الأجير المشترك إذا أفسد كان ضامنا لصاحب المال مثل ماله فيما هو من ذوات الأمثال والغزل من ذوات الأمثال وإن أداء الضمان يوجب الملك له في المضمون وبآخر الحديث أخذ ابن أبي ليلى رحمه الله فيقول : إذا اختلفا في الشرط القول قول الحائك ، وعلى رب الثوب البينة أنه خالف شرطه وعندنا القول قول رب الثوب ; لأن الإذن مستفاد من جهته فالقول قوله في صفته .

التالي السابق


الخدمات العلمية