الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وعن عامر رحمه الله قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل باع حرا وأكل ثمنه واسترق الحر ورجل استأجر أجيرا واستوفى عمله ومنعه أجره ورجل أعطى بي ، ثم غدر } واللفظ الذي ذكر في هذا الحديث أبلغ ما يكون من الوعيد فرسول الله صلى الله عليه وسلم شفيع لأمته وكل مؤمن يرجو النجاة بشفاعته فإذا صار الشفيع خصما يشتد الأمر وهو معنى قوله : ومن كنت خصمه خصمته [ ص: 83 ] أي ألزمته وحججته

فأما قوله : رجل باع حرا وأكل ثمنه فالمراد صورة البيع لا حقيقته فالحر ليس بمحل لحقيقة البيع وببيع الحر يرتكب الكبيرة ولكن باستعمال صورة البيع فسمي فعله بيعا وما يقبض بمقابلته ثمنا مجازا ومن يفعل ذلك بحر فقد استذله والمؤمن عزيز عند الله ورسوله فرسول الله صلى الله عليه وسلم خصم لمن يستذله وإنما يتمكن من ذلك بقوته وضعف ذلك الحر ورسول الله صلى الله عليه وسلم خصم عن كل ضعيف ، وهو يظلمه باسترقاقه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذب عن كل مظلوم حتى ينتصف من ظالمه وهو معنى قوله : صلى الله عليه وسلم { ورجلا استأجر أجيرا فاستوفى عمله ومنعه أجره } ; لأنه استذله بالعمل واستزبنه بمنع الأجر وظلمه فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يذب عنه وفيه دليل جواز استئجار الأجير ، وأن الأجر لا يملك بنفس العقد ; لأنه ألحق الوعيد به بمنع الأجر بعد العمل فلو كان الأجر يجب تسليمه بنفس العقد لما اشترط استيفاء العمل لذكر الوعيد على منع الأجر

وقوله : صلى الله عليه وسلم { : ورجل أعطى بي ، ثم غدر } أي أعطى كافرا أمان الله ، وأمان رسوله ، ثم غدر وهو معنى ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : في وصيته لأمراء السرايا ، وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم وهذا يرجع إلى ما بينا من المعنى ، فالمستأمن يكون مستذلا في ديارنا فإذا غدره واستحقره بعد إعطاء الأمان بالله ورسوله فقد ظلمه ، وعن أبي نعيم رحمه الله عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن عسب التيس وكسب الحجام وقفيز الطحان } والمراد بعسب التيس أخذ المال على الضراب وهو إنزاء الفحول على الإناث ، وذلك حرام ; فإنه يأخذ المال بمقابلة الماء وهو مهين لا قيمة له والعقد عليه باطل ; لأنه يلتزم ما لا يقدر على الوفاء به وهو الإحبال فإن ذلك ليس في وسعه وهو ينبني على نشاط الفحل أيضا ، وكذلك قفيز الطحان وهو أن يستأجر طحانا ليطحن له حنطة معلومة بقفيز منها ، أو من دقيقها وذلك حرام ; لأن العقد فاسد ; فإنه لو صح كان شريكا بأول جزء من العمل ، والعامل فيما هو شريك فيه لا يوجب الأجر ، ثم الأجر إما أن يلتزمه في الذمة ، أو في عين موجود وهو ما التزمه في الذمة ودقيق تلك الحنطة غير موجود وقت العقد .

فأما كسب الحجام فأصحاب الظواهر يأخذون بظاهر هذا الحديث ويقولون كسب الحجام حرام ; لأنه يأخذه بمقابلة ما استخرج من الدم ، أو ما يشترط فهو مجهول فيكون محرما وقد دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول [ ص: 84 ] الله صلى الله عليه وسلم قال من السحت عسب التيس ومهر البغي وكسب الحجام ، والمراد بمهر البغي ما تأخذ الزانية شرطا على الزنا فقد كانوا يؤاجرون الإماء لذلك وفيه نزل قوله تعالى { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } الآية ; لما قرن بين ذلك وكسب الحجام عرفنا أن كسب الحجام حرام ولكنا : نقول هذا النهي في كسب الحجام قد انتسخ بدليل ما ذكره في آخر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : { فأتاه رجل من الأنصار وقال إن لي حجاما وناضحا أفأعلف ناضحي من كسبه ؟ قال : نعم ، وأتاه آخر فقال : إن لي عيالا وحجاما أفأطعم عيالي من كسبه ؟ قال : نعم } فالرخصة بعد النهي دليل انتساخ الحرمة ودل عليه أيضا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : { احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره } ولو كان حراما لم يعطه ; لأنه كما لا يحل أكل الحرام لا يحل إيكاله قال : صلى الله عليه وسلم { لعن الله آكل الربا وموكله } وقال : صلى الله عليه وسلم { لعن الله الراشي والمرتشي } ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول : هذا النهي في كسب الحجامة ما كان على سبيل التحريم بل على سبيل الإشفاق فإن ذلك يدنى المرء به ويخسسه وقال : صلى الله عليه وسلم { إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها } ونحن نقول به فالأولى للمؤمن أن يكتسب بما لا يدينه ، وقد دل عليه حديث عثمان رضي الله عنه حين سأل بعض مواليه عن كسبه فذكر أنه حجام فقال : إن كسبك لوسخ وذكر عن عطاء ومجاهد وطاوس رحمهم الله قال : لا ضمان على الأجير الراعي ، وإن اشترطوا ذلك عليه وبه يقول : إن كان أجيرا واحدا فهو أمين كالمودع واشتراط الضمان على الأمين باطل ، وإن كان الراعي مشتركا فلا ضمان عليه فيما تلف بغير فعله عن أبي حنيفة رحمه الله عليه شرط ذلك عليه ، أو لم يشترط وهو ضامن لما تلف من فعله شرط ذلك ، أو لم يشترط وعندهما ما تلف بما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان عليه فيه شرط ، أو لم يشترط فاشتراط الضمان عليه باطل على اختلاف الأصلين ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية