الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن باعه المستأجر بالدراهم دنانير ودفعها إليه قبل استيفاء المنفعة فهو جائز في قول أبي يوسف رحمه الله الأول وهو قول محمد رحمه الله وفي قوله الآخر الصرف باطل فإذا افترقا قبل إيفاء العمل فوجه قوله الأول أنهما لما أضافا عقد الصرف إلى الأجرة فقد قصدا المقاصة بها ولا وجه لتحصيل مقصودهما إلا بتقديم اشتراط التعجيل فيقدم ذلك لتحصيل مقصودهما ، ثم المضمر كالمصرح به

ولو صرح باشتراط التعجيل ، ثم صارف به دينارا وقبضه لم يبطل العقد بالافتراق ، فكذلك إذا ثبت ذلك ضمنا في كل منهما وهو نظير الشراء ، والدليل عليه أن من كفل عن غيره عشرة دراهم بأمره ، ثم صارف به مع المكفول عنه دينارا قبل أن يؤدي جاز ذلك لوجود السبب ، وإن لم يجب دينه على المكفول عنه ما لم [ ص: 113 ] يؤد مثله

وجه قوله الآخر أن وجوب العشرة مقترن بعقد الصرف وما يجب بعقد الصرف إذا لم يقبض حتى افترقا بطل العقد كما لو تصارفا دينارا بعشرة دراهم مطلقا وبيان ذلك أن الأجر لم يجب بعقد الإجارة بالاتفاق قبل استيفاء العمل ولا سبب للوجوب بعده سوى الصرف فعرفنا أنه واجب بعقد الصرف والذي قال : من أنه يقدم اشتراط التعجيل ليس بقوي ; لأن الحاجة إلى اشتراط التعجيل للمقاصة به لا لصحة عقد الصرف فعقد الصرف صحيح بدراهم في ذمته وأوان المقاصة بعد عقد الصرف فهب أن شرط التعجيل يثبت مقدما على المقاصة فإنما يكون ذلك بعد عقد الصرف ، أو معه وبدل الصرف لا يجوز أن يكون قصاصا بدين يجب بعده فإن ( قيل : ) يجعل شرط التعجيل مقدما على عقد الصرف ; لأنه لا يمكن تحصيل مقصودهما وهو المقاصة إلا به ( قلنا ) : إنما يقدم على العقد بطريق الإجبار ما هو من شرائط العقد ، ووجوب الأجر ليس من شرائط عقد الصرف بدليل أنه لو نقد العشرة في المجلس كان العقد صحيحا ، ثم لا يشتغل بالاحتيال لبقاء العقد صحيحا ( ألا ترى ) أنه لو باعه عشرة وثوبا بعشرة وثوب وافترقا قبل القبض بطل العقد في الدراهم ولو صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس لم يبطل ولكن قيل : يحتال للتصحيح في الابتداء ولا يحتال للبقاء على الصحة والدليل عليه أن الأجرة إذا كانت بقرة بعينها فصارف بها دينارا وافترقا قبل قبض البقرة لم يصح ولو كان اشتراط التعجيل معتبرا في إبقاء العقد صحيحا لاستوى فيه العين والدين وأما مسألة الكفيل فبالكفالة كما وجب للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الأصيل ولكنه مؤجل إلى أدائه ، والمصارفة بالدين المؤجل صحيح وقد بينا هاهنا أن الأجر لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا فيبطل عقد الصرف بالافتراق قبل قبض الدراهم

وإن مات قبل أن يوفيه العمل وقد حمله بعض الطريق أو لم يحمله فإنه يرد عليه من الدراهم بقدر ما لم يوفه من العمل وفي قوله الأول ; لأنه صار مستوفيا للأجر بطريق المقاصة فبقدر ما ينفسخ العقد فيه يلزمه رده ، وفي قوله الآخر الصرف باطل فعليه رد دينار ، وإن شرط في الأجل مدة معلومة فذلك صحيح واعتبار الأجل من حين يجب الأجر ; لأن الأجل يؤخر المطالبة ولا يتحقق ذلك قبل الوجوب ، وإن كان الأجر شيئا له حمل ومؤنة فلم يشترط له مكان الإيفاء في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله العقد فاسد وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز وهو نظير اختلافهم في المسلم فيه وقد بيناه في البيوع فإن قيل : أليس أن الأجر بمنزلة الثمن في البيع ، ولو كان الثمن [ ص: 114 ] شيئا له حمل ومؤنة لا يشترط فيه بيان مكان الإيفاء فكيف يشترط ذلك في الأجر عند أبي يوسف رحمه الله

( قلنا ) : في الثمن إن لم يكن مؤجلا فالإيفاء يجب بنفس العقد ويتعين موضع العقد لإيفائه ; لأنه مكان وجوب التسليم ، وإن كان مؤجلا ففيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله : إحداهما أنه لا بد من بيان مكان الإيفاء كما في السلم ; لأن وجوب التسليم الآن عند حلول الأجل ولا يدري في أي مكان يكون عند ذلك فلا يصح العقد إلا ببيان مكان الإيفاء وفي الرواية الأخرى يجوز ; لأن البيع في الأصل يوجب تسليم الثمن بنفسه وباعتبار هذا المعنى يتعين موضع العقد للتسليم ; لأن في ذلك إمكان وجوب التسليم وإنما تأخر بعارض شرط الأجل ; لأن شرط الأجل معتبر في تأخير المطالبة لا في نفي الوجوب فبقي مكان العقد متعينا للتسليم بمقتضى العقد ، فأما السلم فلا يوجب تسليم المسلم فيه عقيب العقد بحال

وإنما يوجب ذلك عند سقوط الأجل فلا يتعين مكان العقد فيه للتسليم والإجارة نظير السلم ; لأن مطلق العقد لا يوجب تسليم الأجر عليه عقيبه بحال فلا يتعين موضع العقد لإيفائه ، ولا بد من بيان مكان الإيفاء ; لأن بدون بيان المكان تتمكن فيه جهالة تفضي إلى المنازعة ، فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فالعقد صحيح هنا كما في السلم إلا أن هناك عندهما يتعين موضع العقد للتسليم ; لأن وجوب التسليم فيه بنفس العقد ، وهنا في إجارة الأرض والدار تعين موضع الأرض والدار للإيفاء ; لأن وجوب الأجر هنا باستيفاء المنفعة لا بنفس العقد والاستيفاء يكون عند الدار فيجب تسليم الأجر في ذلك الموضع وفي الحمولة حيثما وجب له ذلك وفي العمل بيده حيث يوفيه العمل فإن طالبه به وفي بلد آخر لم يكلف حمله إليه ولكن يستوثق له منه حتى يوفيه في موضعه ; لأنه يطالب بإيفاء ما لزمه ولم يلزمه الحمل إلى مكان آخر ولكن يستوثق منه ; مراعاة لجانب الطالب وله أن يأخذه في الدراهم والدنانير حيث شاء ; لأنه صار دينا في ذمته وليس له حمل ومؤنة فيطالبه بالإيفاء حيثما لقيه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية