الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( 5 ) )

اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ، ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها [ الأربعة ] المذكورة في قوله تعالى : ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) الآية [ التوبة : 36 ] قاله أبو جعفر الباقر ، لكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك أيضا ، وفيه نظر ، [ ص: 111 ] والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] ثم قال ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة .

وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) أي : من الأرض . وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] .

وقوله : ( وخذوهم ) أي : وأسروهم ، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا .

وقوله : ( واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) أي : لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع ، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ؛ ولهذا قال : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم )

ولهذا اعتمد الصديق - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي الدخول في الإسلام ، والقيام بأداء واجباته . ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق الله - عز وجل - وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة الحديث .

وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا حميد الطويل ، عن أنس ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا [ ص: 112 ] رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم .

ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث عبد الله بن المبارك ، به .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس [ عن أنس ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض - قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث ، واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) - قال : توبتهم خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [ التوبة : 11 ] .

ورواه ابن مردويه .

ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " له : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حكام بن سلم حدثنا أبو جعفر الرازي ، به سواء .

وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمى لهم من العقد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان قال [ ص: 113 ] علي بن أبي طالب : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف : سيف في المشركين من العرب قال الله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ وخذوهم ] )

هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) [ واغلظ عليهم ] ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] والرابع : قتال الباغين في قوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) [ الحجرات : 9 ] .

ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .

التالي السابق


الخدمات العلمية