الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 2 - القول في المكاتب ]

وأما المكاتب ففيه مسائل :

إحداها : هل تجوز كتابة المراهق ؟ وهل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد ؟ وهل تجوز كتابة من يملك في العبد بعضه بغير إذن شريكه ؟ وهل تجوز كتابة من لا يقدر على السعي ؟ وهل تجوز كتابة من فيه بقية رق ؟

فأما كتابة المراهق القوي على السعي الذي لم يبلغ الحلم ، فأجازها أبو حنيفة ، ومنعها الشافعي إلا للبالغ ، وعن مالك القولان جميعا .

فعمدة من اشترط البلوغ تشبيهها بسائر العقود . وعمدة من لم يشترطه أنه لا يجوز بين السيد وعبده ما لا يجوز بين الأجانب ، وأن المقصود من ذلك هو القوة على السعي ، وذلك موجود في غير البالغ .

وأما هل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد ؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، ثم إذا قلنا بالجمع فهل يكون بعضهم حملاء عن بعض بنفس الكتابة حتى لا يعتق واحد منهم إلا بعتق جميعهم ؟ فيه أيضا خلاف .

فأما هل يجوز الجمع ؟ فإن الجمهور على جواز ذلك ، ومنعه قوم ، وهو أحد قولي الشافعي .

وأما هل يكون بعضهم حملاء عن بعض ؟ فإن فيه لمن أجاز الجمع ثلاثة أقوال :

فقالت طائفة : ذلك واجب بمطلق عقد الكتابة ، أعني حمالة بعضهم عن بعض ، وبه قال : مالك وسفيان .

[ ص: 702 ] وقال آخرون : لا يلزمه ذلك بمطلق العقد ويلزم بالشرط ، وبه قال : أبو حنيفة وأصحابه ، وقال الشافعي : لا يجوز ذلك لا بالشرط ولا بمطلق العقد ، ويعتق كل واحد منهم إذا أدى قدر حصته . فعمدة من منع الشركة ما في ذلك من الغرر ; لأن قدر ما يلزم واحدا واحدا من ذلك مجهول .

وعمدة من أجازه أن الغرر اليسير يستخف في الكتابة ; لأنه بين السيد وعبده ، والعبد وماله لسيده .

وأما مالك فحجته أنه لما كانت الكتابة واحدة وجب أن يكون حكمهم كحكم الشخص الواحد .

وعمدة الشافعية أن حمالة بعضهم عن بعض لا فرق بينها وبين حمالة الأجنبيين ، فمن رأى أن حمالة الأجنبيين في الكتابة لا تجوز قال : لا تجوز في هذا الموضع . وإنما منعوا حمالة الكتابة ; لأنه إذا عجز المكاتب لم يكن للحميل شيء يرجع عليه ، وهذا كأنه ليس يظهر في حمالة العبيد بعضهم عن بعض ، وإنما الذي يظهر في ذلك أن هذا الشرط هو سبب لأن يعجز من يقدر على السعي بعجز من لا يقدر عليه ، فهو غرر خاص بالكتابة ، إلا أن يقال : أيضا إن الجمع يكون سببا لأن يخرج حرا من لا يقدر من نفسه أن يسعى حتى يخرج حرا فهو كما يعود برق من يقدر على السعي ، كذلك يعود بحرية من لا يقدر على السعي .

وأما أبو حنيفة فشبهها بحمالة الأجنبي مع الأجنبي في الحقوق التي تجوز فيها الحمالة فألزمها بالشرط ولم يلزمها بغير شرط ، وهو مع هذا أيضا لا يجيز حمالة الكتابة .

وأما العبد بين الشريكين فإن العلماء اختلفوا هل لأحدهما أن يكاتب نصيبه دون إذن صاحبه ؟ فقال بعضهم : ليس له ذلك والكتابة مفسوخة ، وما قبض منها هي بينهم على قدر حصصهم ، وقالت طائفة : لا يجوز أن يكاتب الرجل نصيبه من عبده دون نصيب شريكه ، وفرقت فرقة ، فقالت : يجوز بإذن شريكه ولا يجوز بغير إذن شريكه ، وبالقول الأول قال مالك ، وبالثاني قال ابن أبي ليلى وأحمد ، وبالثالث قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ، وله قول آخر مثل قول مالك .

وعمدة مالك أنه لو جاز ذلك لأدى إلى أن يعتق العبد كله بالتقويم على الذي كاتب حظه منه ، وذلك لا يجوز إلا في تبعيض العتق .

ومن رأى أن له أن يكاتبه رأى أن عليه أن يتم عتقه إذا أدى الكتابة إذا كان موسرا .

فاحتجاج مالك هنا هو احتجاج بأصل لا يوافقه عليه الخصم ، لكن ليس يمنع من صحة الأصل أن لا يوافقه عليه الخصم . وأما اشتراط الإذن فضعيف ، وأبو حنيفة يرى في كيفية أداء المال للمكاتب إذا كانت الكتابة عن إذن شريكه أن كل ما أدى للشريك الذي كاتبه يأخذ منه الشريك الثاني نصيبه ، ويرجع بالباقي على العبد فيسعى له فيه حتى يتم له ما كان كاتبه عليه ، وهذا فيه بعد عن الأصول .

وأما هل تجوز مكاتبة من لا يقدر على السعي فلا خلاف فيما أعلم بينهم أن شرط المكاتب أن يكون قويا على السعي لقوله تعالى : ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، وقد اختلف العلماء ما الخير الذي اشترطه الله في المكاتبين في قوله ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، فقال الشافعي : الاكتساب والأمانة ، وقال بعضهم : المال والأمانة ، وقال آخرون : الصلاح والدين . وأنكر بعض العلماء أن يكاتب من لا حرفة له مخافة السؤال ، وأجاز ذلك بعضهم لحديث بريرة : " أنها كوتبت أن تسأل الناس " وكره أن تكاتب الأمة التي لا اكتساب لها [ ص: 703 ] بصناعة مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى الزنا .

[ كتابة من به بقية رق ] وأجاز مالك كتابة المدبرة وكل من فيه بقية رق إلا أم الولد إذ ليس له عند مالك أن يستخدمها .

التالي السابق


الخدمات العلمية