الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                      فصل ( فإن اشتبهت عليه القبلة فإن كان في قرية ففرضه التوجه إلى محاريبهم ) لما تقدم ( فإن لم تكن ) لهم محاريب ( لزمه السؤال عنها ) أي عن القبلة قال في المبدع : ظاهره يقصد المنزل في الليل ، فيستخبر ( إن كان جاهلا بأداتها ) أي القبلة ( فإن وجد من يخبره عن يقين ففرضه الرجوع إلى خبره ) ولا يجتهد كالحاكم يجد النص .

                                                                                                                      ( وإن كان ) يخبره ( عن ظن ففرضه تقليده إن كان ) المخبر ( من أهل الاجتهاد فيها ، وهو العالم بأداتها ) وضاق الوقت وإلا لزمه التعليم والعمل باجتهاده ( وإن اشتبهت عليه ) القبلة ( في السفر وكان عالما بأداتها ، ففرضه الاجتهاد في معرفتها ) لأن ما وجب اتباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه ، كالحكم في الحادثة ( فإذا اجتهد وغلب على ظنه جهة ) أنها القبلة ( صلى إليها ) لتعينها قبلة له ، إقامة للظن مقام اليقين ، لتعذره ( فإن تركها ) أي الجهة التي غلبت على ظنه ( وصلى إلى غيرها أعاد ) ما صلاه إلى غيرها .

                                                                                                                      ( وإن أصاب ) لأنه ترك فرضه ، كما لو ترك القبلة المتيقنة ( وإن تعذر عليه الاجتهاد لغيم ونحوه ) كما لو كان مطمورا ( أو ) كان ( به مانع من الاجتهاد ، كرمد ونحوه ، أو تعادلت عنده الأمارات صلى على حسب حاله بلا إعادة ) كعادم الطهورين ( وكل من صلى من هؤلاء ) المذكورين ( قبل فعل ما يجب عليه من استخبار ) إن وجد من يخبره عن يقين ( أو اجتهاد ) إن قدر عليه ولم يجد من يخبره عن يقين ( أو تقليد ) إن لم يقدر على الاجتهاد لعدم علمه بالأدلة أو عجزه عنه لرمد أو نحوه ( أو تحر ) فيما إذا لم يجد الأعمى أو الجاهل من يقلده ( فعليه الإعادة وإن أصاب ) القبلة لتفريطه بترك ما وجب عليه ( ويستحب أن يتعلم أدلة القبلة و ) أدلة ( الوقت ) من لا يعرفها ، وقال أبو المعالي : يتوجه وجوبه وقدمه في المبدع فقال : ويجب على من يريد السفر تعلم ذلك ومنعه قوم ، لأن جهة القبلة مما يندر التباسه .

                                                                                                                      والمكلف يجب عليه تعلم ما يعم لا ما يندر ( ويستدل عليها ) أي القبلة ( بأشياء منها النجوم ) وهي أصحها قال تعالى { وبالنجم هم يهتدون } وقال { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } .

                                                                                                                      وقال عمر : تعلموا من النجوم ما تعرفون به الوقت والطريق ( وأثبتها ) وأقواها ( القطب ) بتثليث أوله حكاه ابن سيده ( الشمالي ) [ ص: 308 ] لأنه لا يزول عن مكانه ويمكن كل أحد معرفته ( ثم الجدي ) نجم نير على ما ذكره جماعة من أصحابنا وغيرهم خلافا لأبي الخطاب ( والفرقدان والقطب نجم خفي ) شمالي يراه حديد البصر إذا لم يكن القمر طالعا فإذا قوي نور القمر خفي ( وحوله أنجم دائرة ، كفراشة الرحى ، أو كالسمكة في أحد طرفيها أحد الفرقدين ) .

                                                                                                                      وفي الشرح وشرح المنتهى : في أحد طرفيها الفرقدان ( وفي الطرف الآخر الجدي ) قالوا : وبين ذلك أنجم صغار منقوشة كنقوش الفراشة ، ثلاثة من فوق وثلاثة من تحت ، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران فراشة الرحى حول سفودها ، في كل يوم وليلة دورة ، نصفها بالليل ونصفها بالنهار في الزمن المعتدل ، فيكون الفرقدان عند طلوع الشمس في مكان الجدي عند غروبها ، ويمكن الاستدلال بها في أوقات الليل وساعاته ، وغيره من الأزمنة لمن عرفها ، وفهم كيفية دورانها ( والقطب في وسط الفراشة لا يبرح من مكانه دائما ) قدمه في الشرح .

                                                                                                                      وفي شرح المنتهى : إلا قليلا قال في الشرح : وقيل : إنه يتغير يسيرا لا يؤثر ( ينظره ) أي القطب ( حديد البصر في غير ليالي القمر ) فإذا قوي نور القمر خفي ( لكن يستدل عليه بالجدي والفرقدين : فإنه بينهما ، وعليه تدور بنات نعش الكبرى ) قال في شرحه : بنات نعش أربعة كواكب ، وثلاثة تتبعها الأربعة نعش .

                                                                                                                      والثلاثة بنات ( وغيرها ) أي غير بنات نعش الكبرى ( إذا جعله ) أي جعل الإنسان القطب ( وراء ظهره كان مستقبلا وسط السماء في كل بلد ثم إن كان في بلد لا انحراف له عن مسامتة القبلة للقطب مثل آمد ، وما كان على خطها فهو مستقبل القبلة وإن كان البلد منحرفا عنها ) أي عن مسامتة القبلة للقطب ( إلى جهة المغرب انحرف المصلي إلى المشرق بقدر انحراف بلده كبلاد الشام وما هو مغرب عنها فإن انحراف دمشق إلى المغرب نحو نصف سدس الفلك ، يعرف ذلك الفلكية وكلما قرب إلى المغرب كان انحراف المصلي إلى المشرق بقدره وعكس ذلك بعكسه ، فإذا كان البلد منحرفا عن مسامتة القبلة للقطب إلى المشرق انحرف المصلي إلى المغرب بقدر انحرافه ) .

                                                                                                                      أي بلده ( وكلما كثر انحرافا إلى المشرق كثر انحراف المصلي إلى المغرب بقدره ، وإن جعل القطب وراء ظهره في الشام وما حاذاها وانحرف قليلا إلى المشرق كان مستقبلا القبلة قال الشيخ في شرح العمدة : إذا جعل الشامي القطب بين أذنه اليسرى ونقرة القفا فقد استقبل ما بين الركن الشمالي والميزاب ا هـ فمطلع سهيل ) وهو نجم كبير يضيء ، يطلع من مهب الجنوب ، ثم يسير حتى [ ص: 309 ] يصير في قبلة المصلي ، ثم يتجاوزها ، فيسير حتى يغرب بقرب مهب الدبور ( لأهل الشام قبلة ويجعل القطب خلف أذنه اليمنى بالمشرق ) : وقال الشيخ أيضا : العراقي إذا جعل القطب بين أذنه اليمنى ونقرة القفا ، فقد استقبل قبلته ا هـ .

                                                                                                                      ( ويجعله ) أي القطب ( على عاتقه الأيسر بإقليم مصر ) ومن استدبر الفرقدين والجدي في حال علو أحدهما وهبوط الآخر فهو كاستدبار القطب ، وإن استدبر أحدهما في غير هذا الحال ، فهو مستقبل للجهة ، لكنه إن استدبر الشرقي منها انحرف إلى المشرق قليلا ، وإن استدبر الغربي انحرف قليلا إلى المغرب ليتوسط الجهة ، ويكون انحرافه المذكور لاستدبار الجدي أقل من انحرافه لاستدبار الفرقدين لأنه أقرب إلى القطب منهما ، وإن استدبر بنات نعش كان مستقبلا الجهة أيضا ، لكنه عن وسطها أبعد فيجعل انحرافه إليه أكثر .

                                                                                                                      قال في شرح الهداية : ومما يستدل به أيضا : المجرة ، فإنها تكون في الشتاء في أول الليل في ناحية السماء ممتدة شرقا وغربا على الكتف الأيسر من الإنسان ، إذا كان متوجها إلى المشرق ثم تصير من آخره ممتدة شرقا وغربا أيضا على كتفه الأيمن ، وأما في الصيف فإنها تتوسط السماء ( ومنها ) أي الأدلة ( الشمس والقمر ، ومنازلهما وما يقترن بها ) أي بمنازل الشمس والقمر ( أو ما يقاربها كلها تطلع من المشرق على يسرة المصلي في البلاد الشمالية ، وتغرب في المغرب عن يمنته ) والمنازل ثمانية وعشرون أربع عشرة شامية ، تطلع من وسط المشرق ، أو مائلة عنه إلى الشمال وأربع عشرة يمانية تطلع من المشرق مائلة إلى اليمين ولكل نجم من الشامية رقيب من اليمانية إذا طلع أحدهما غاب رقيبه ( والقمر يبدو هلالا أول الشهر ) إلى ثلاثة ( عن يمنة المصلي عند غروب الشمس .

                                                                                                                      وفي الليلة الثامنة من الشهر يكون على القبلة عند غروب الشمس ، وفي الليلة العاشرة على سمت القبلة وقت العشاء بعد مغيب الشفق .

                                                                                                                      وفي ليلة اثنتين وعشرين على سمتها وقت طلوع الفجر تقريبا فيمن بالشام ومنها ) أي الأدلة ( الرياح والاستدلال بها عسر إلا في الصحاري وأما بين الجبال والبنيان ، فإنها تدور ، فتختلف وتبطل دلالتها ) ولهذا قال أبو المعالي الاستدلال بها ضعيف ا هـ وأمهاتها أربع : الجنوب ومنها قبلة أهل الشام من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس في الشتاء وبالعراق إلى بطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمنته والشمال مقابلتها ومهبها من القطب إلى مغرب الشمس في الصيف والصبا : وتسمى القبول ومهبها من يسرة المصلي بالشام لأنه مطلع الشمس صيفا إلى مطلع العيوق وبالعراق إلى خلف أذن المصلي اليسرى مارة إلى يمنته والدبور مقابلتها ، لأنها تهب بالشام بين القبلة والمغرب وبالعراق مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن ، وبين [ ص: 310 ] كل ريحين من الأربع المذكورات : ريح تسمى النكباء لتنكبها طريق الرياح المعروفة ولكل من هذه الرياح صفات وخواص تميز بعضها عن بعض عند ذوي الخبرة به .

                                                                                                                      ( ومنها ) أي أدلة القبلة ( الجبال الكبار ، فكلها ممتدة عن يمنة المصلي إلى يسرته ، وهذه دلالة قوية ) تدرك بالحس ( لكن تضعف من وجه آخر وهو أن المصلي يشتبه عليه هل يجعل الجبل الممتد خلفه أو قدامه ؟ فتحصل الدلالة على وجهين والاشتباه على جهتين ، هذا إذا لم يعرف وجه الجبل ) فإن عرفه استقبله .

                                                                                                                      ( فإن وجوه الجبال إلى القبلة وهو ) أي وجه الجبل ( ما فيه مصعده قاله في الخلاصة ومنها ) أي الأدلة ( الأنهار الكبار ، غير المحدودة ) أي المحفورة ( كدجلة والفرات والنهروان ) وهو جيحون ( وغيرها ) كالنيل ( فإنها تجري عن يمنة المصلي إلى يسرته ، إلا نهرا بخراسان وهو المقلوب و ) إلا ( نهرا بالشام وهو العاصي ، يجريان عن يسرة المصلي إلى يمنته ) .

                                                                                                                      قال الموفق : وهذا لا ينضبط لأن الأردن بالشام يجري نحو القبلة وكثير منها يجري نحو البحر يصب فيه ( قلت والاستدلال بالأنهار فرع على الاستدلال بالجبال فإنها تجري في الخلال التي بين الجبال ممتدة مع امتدادها ) وهذا ظاهر في الجملة .

                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                      الخدمات العلمية