الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
حب الله تعالى

ورأس هذا الجوهر حب الله تعالى والفرح به فإن الله تعالى لم يعطه ذلك حتى أحبه وفرح به فابتدأ خلقته من باب الفرح به فمن لقي الله قبل أن يفتح هذه الصرة ولم ينكشف له الغطاء لقيه على غفلة عظيمة وكفران نعمة وضياع شكر وتهافت في الذنوب فعظم حياؤه واشتد خوفه واستقبلته أهوال القيامة وعسرة الحساب

ومن انفتحت صرته وكشف له الغطاء لقي الله على بصيرة شاكرا مؤمنا موقنا باذلا نفسه قد وفى بالعهد وأتى بالإسلام وحقائقه فقرب وأدني وأومن

فمع كل واحد صرة توحيد قد عقد عليها حياة قلبه فإن أصل الحياة في القلب والذهن مقرون بالحياة فقد عقد بحرارة حياته وحدة ذهنه على الصرة وهي المعرفة وحب الله تعالى فيها مكنون وكتاب رب العالمين فيها مكتوب وذلك قوله تعالى [ ص: 90 ] أولئك كتب في قلوبهم الإيمان

قال له قائل وما ذلك الكتاب

قال إنه لما وقعت جبايته في البدو يوم المقادير على تلك القلوب قبض عليها وقال أنتم لي فصارت هذه المقالة في القبضة كتابه فاطمأنوا إليه وآمنوا به وتعلقوا به فذلك إيمانهم صار هناك مكتوبا يومئذ فلما أخرجهم من بطون الأمهات إلى الدنيا أشرق في القلوب منهم نور المعرفة من الحب والرأفة والرحمة والحياء وعلم الصفات وعلم الأسماء فهي مكتوبة لا يكاد صاحبها يميز ولا يعبر عنها فإذا عقل واستعمل عقله وتبحر ظهرت الأنوار في الصدر وانكشف الغطاء وحيي القلب وعمل بذكاوة الحياء فجددته وعمل بحلاوة الحب فأخذ بمجامع قلبه وسبته حتى صار أسير الحب وعملت أثقال الرأفة فضغطت القلب وعصرته وعملت أمطار الرحمة فلينت القلب وسكنت شعوثته واغتراره وعملت أنفة الحياء فقبضته [ ص: 91 ] وفترته وعمل الجود فيه فوسعه وأعتقه من رق النفس

فهذه معرفة قد انكشفت الصرة عما فيها من هذه الأسماء التي وصفتها فاستقام القلب بما أبصر فؤاده في هذا الصدر من هذه الأسماء فاستعمل بالمعروف الموصوف فلها عن كل شيء سواه فأحبه صدقا وخافه صدقا ورجاه صدقا واستحيا منه صدقا ورعى حقوقه من تلك الرأفة صدقا فما ظنك به ماذا يظهر على جوارحه من الأعمال السنية

تغطية الشهوات

وآخر وضعت فيه هذه المعرفة فجاءت الشهوات فغطتها ولم يستعمل صاحبها العقل ولم يتبحر في ذلك فاستعمل الشهوات فتراكمت على صدره غيومها وغبارها ودخانها فكل شهوة استعملها من حلها وللنفس نصيب الإكباب صارت غيوما وكل شهوة استعملها من حلها وللنفس فيها نصيب الغفلة فاستعمل القلب ذلك في غفلة عن الله صار غبارا في الصدر وكل شهوة استعملها بحرص وهلع وتخليط صار دخانا وكل شهوة استعملها من غير حلها صارت ظلمة كالليل فبقيت هذه المعرفة [ ص: 92 ] في القلب والصدر متراكمة هذه الأشياء فيه ولم تجد المعرفة مساغا إلى أن تشرق بما فيها من باب القلب إلى الصدر حتى تبصر عين الفؤاد ذلك فتقوى وتستقيم وتستمر في العبودية فصار القلب بكنوزه كالمسجون الذليل وصاحبه 56 فقير محزون لأن غناه بحطام الدنيا وحزنه بما يفوت من الدنيا فلا يناله ويحرص ويكد ويتعب فلا يدرك مناه والعدو منه بمرصد ينتظر متى يجد فرصة الإغارة على هذا الكنز

أصحاب هذه الصفة صنفان

فأصحاب هذه الصفة صنفان فمنهم من أحاط بقلبه عسكر أعمال البر فهو يعمل دائما أعمال البر وهو في خلال ذلك يرائي بعمله ويتصنع بشمائله ويستلذ بخلائقه ويباهي في أمور الله يزل مرة ويثبت أخرى تراه مرة مستقيما ومرة مترديا في آبار المعاصي واسمه في المستورين القرائين المعدلين عند الخلق في الظاهر فهذا العسكر المحيط [ ص: 93 ] بقلبه له عند الله قدر يستجلب منه الرحمة لصاحبه حتى لا ينقطع حبله فعامل عسكره التعبد وعامل عسكره التزهد وعامل عسكره التورع فقد صاروا أصنافا من هذا الصنف الواحد وكلهم يرجعون إلى تحري الصدق وهم في غطاء وغفلة عظيمة عن الله تعالى فقد حرموا حلاوة التوحيد ولذاذة المعرفة ونزاهة علم المعرفة إنما يذوقون حلاوة أعمالهم من التعبد والتزهد والتورع فإذا وجدوا تلك الحلاوة حسبوا أن هذه الحلاوة والعبادة والزهد والورع إنما هي حلاوة أعمالهم تلتذ نفوسهم بها وتبطر وتأشر وتفرح بها وتطمئن إليها وتتكل عليها فإن لم يتداركهم الله برحمته ويحفظ ذلك عليهم ضربهم العجب وكبر النفس بالغطسة فرضت رءوسهم رضا وصاروا كمن يضرب اللبن في الماء إذا نصبوا للسؤال يوم الموقف وقبول صدقهم بشكرهم

ومن تراخت به نفسه عن الصدق وخدعته نفسه [ ص: 94 ] بأمانيها فنالت به التودع إلى راحات الدنيا ولذاتها ونزهتها فاستعملت الشهوات وتوسعت فيها أبصر العدو من مرصده ذلك منه فعظم طمعه فيه واستعد له بأسلحته فهيج منه الكبر والكبرياء وأثار الشهوات منه حتى اشتعل حريقها وحرها وأشخص آماله واستعد للحيلة عليه بنفسه فإذا وجد صدره مشحونا بهذه الأشياء التي هي أسلحته وتلك جنود الهوى حمل حملة واحدة فلما رأت الجنود التي في صدره أن سيدهم قد أقبل ثاروا من معادنهم واصطفوا بين يديه في صدر العبيد وتداعت منازل الشهوات بعضها بعضا فإذا رأى القلب حملة العدو وسلطان تلك الجنود وعلى مقدمته جيش الهوى انهزم وتخلى عن الباب فوقعت الغارة في الكنوز كنوز المعرفة حتى تركت القلب خاليا من الكنوز وبقيت المعرفة خالية كمعلقة بأدق من الشعرة فبقي القلب متحيرا يتذبذب وقد افتقد العلم [ ص: 95 ] والحياء والخشية والخوف .والحب وجاء الهوى وشهوات النفس فسكنوا القلب وأحاطوا بالمعرفة فدقت قوة المعرفة حتى تورده النار معه فذهبت قوة المعرفة وصارت كالمعلقة بشعرة وصار الصدر مملكة الهوى ورجع العدو فظهر على الجوارح من الحرص جمع الدنيا ومن الكبر إبطال الحقوق وظلم العباد ومن الشهوات رفض العبودية ونبذ العهد ونقض الميثاق وجاءت أعمال الفسق والفجور وخبث السريرة وحسن العلانية والنفاق وسكر العقل وولاية الهوى وإمرته وانكمن العقل وانسد الفهم وحمق الذهن وانطبق الحفظ واندفن العلم وذابت المعرفة وفاض جهلا وامتلأ كذبا وخيانة وذهب الوفاء وطارت الأمانة وظهر الاستبداد وعلاه الكبر وأحاط به التجبر وامتلأت الأرض والسماء فضائح وقبائح وهو في حلم الله والعدو بمرصد ينتظر حتى يحل به سخط الله تعالى فيحمل حمله بكفر فيورده حتى يمتد ويضبط فإذا [ ص: 96 ] حل به السخط رفعت المعرفة وانقطع الحبل وسباه العدو وصير إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون

التالي السابق


الخدمات العلمية