الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 110 ] ( و ) البداءة ( بغسل اليدين ) الطاهرتين ثلاثا قبل الاستنجاء وبعده ، وقيد الاستيقاظ اتفاقي ; ولذا لم يقل قبل إدخالهما الإناء لئلا يتوهم اختصاص السنة بوقت الحاجة لأن مفاهيم الكتب حجة ، - [ ص: 111 ] بخلاف أكثر مفاهيم النصوص ، كذا في النهر وفيه من الحد المفهوم معتبر في الروايات اتفاقا ، ومنه أقوال الصحابة . قال : وينبغي تقييده بما يدرك بالرأي لا ما لا يدرك به . ا هـ .

وفي القهستاني عن حدود النهاية : المفهوم معتبر في نص العقوبة كما في قوله تعالى - { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } - وأما اعتباره في الرواية فأكثري لا كلي ( إلى الرسغين ) بالضم ، مفصل الكف بين الكوع والكرسوع ، وأما البوع ففي الرجل . قال :

وعظم يلي الإبهام كوع وما يلي لخنصره الكرسوع والرسغ في الوسط     وعظم يلي إبهام رجل ملقب
ببوع فخذ بالعلم واحذر من الغلط

ثم إن لم يمكن رفع الإناء أدخل أصابع يسراه [ ص: 112 ] مضمومة وصب عليها اليمنى لأجل التيامن . ولو أدخل الكف إن أراد الغسل صار الماء مستعملا ، وإن أراد الاغتراف لا ، ولو لم يمكنه الاغتراف بشيء ويداه نجستان تيمم وصلى ولم يعد . ( وهو ) سنة كما أن الفاتحة واجبة ( ينوب عن الفرض ) [ ص: 113 ] ويسن غسلها أيضا مع الذراعين .

التالي السابق


( قوله : والبداءة بغسل يديه ) قال ابن الكمال : السنة تقديم غسل اليد ; وأما نفس الغسل ففرض ، وللإشارة إلى هذا المعنى قال : البداءة بغسل يديه ولم يقل غسل يديه ابتداء كما قال غيره ا هـ .

( قوله : الطاهرتين ) أما غسل النجستين فواجب بحر ( قوله : ثلاثا ) لم يكتف بقول المصنف الآتي : وتثليث الغسل ، لأن المتبادر منه أن المراد به غسل الأعضاء الثلاثة ، فافهم . قال في الحلية : والظاهر أنه لو نقص غسلهما عن الثلاث كان آتيا بالسنة تاركا لكمالها ، على أنه في رواية عند أصحاب السنن الأربع لحديث المستيقظ { أنه صلى الله عليه وسلم قال مرتين أو ثلاثا } وقال الترمذي : حسن صحيح ( قوله : قبل الاستنجاء وبعده ) قال في النهر : ولا خفاء أن الابتداء كما يطلق على الحقيقي يطلق على الإضافي أيضا ، وهما سنتان لا واحدة . ا هـ .

( قوله : وقيد الاستيقاظ ) أي الواقع في الهداية وغيرها تبعا لحديث الصحيحين { : إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها } ولفظ مسلم { : حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده } ( قوله : اتفاقي ) أي غير مقصود الذكر للاحتراز عن غيره . قال في العناية : خص المصنف يعني صاحب الهداية بالمستيقظ تبركا بلفظ الحديث ، والسنة تشمل المستيقظ وغيره ، وعليه الأكثرون . ا هـ . ومنهم من قال : إنه مقصود ، وأن غسلهما لغير المستيقظ أدب ، كما في السراج .

وفي النهر : الأصح الذي عليه الأكثر أنه سنة مطلقا ، لكنه عند توهم النجاسة سنة مؤكدة ، كما إذا نام لا عن استنجاء أو كان على بدنه نجاسة ، وغير مؤكدة عند عدم توهمها ، كما إذا نام إلا عن شيء من ذلك أو لم يكن مستيقظا عن نوم ا هـ ونحوه في البحر ( قوله : ولذا ) أي لكون القيد اتفاقيا وأن الغسل سنة مطلقا ( قوله : بوقت الحاجة ) أي إلى إدخالهما الإناء . ابن كمال : فيكون مفهومه أنه إذا لم يحتج إلى ذلك ، بأن كان الإناء صغيرا يمكن رفعه والصب منه لا يسن غسلهما مع أنه يسن مطلقا ( قوله : لأن مفاهيم الكتب حجة ) علة للتوهم : أي أنه لو قال ذلك لتوهم ما ذكر لأن إلخ . مطلب في دلالة المفهوم

والمفاهيم : جمع مفهوم ، وهو دلالة اللفظ على شيء مسكوت عنه . وهو قسمان : مفهوم الموافقة ، وهو أن يكون المسكوت عنه : أي غير المذكور موافقا للمنطوق : أي المذكور في الحكم ; كدلالة النهي عن التأفيف على حرمة الضرب ، وهذا يسمى عندنا دلالة النص ، وهو معتبر اتفاقا . ومفهوم المخالفة بخلافه ، وهو أقسام : مفهوم الصفة والشرط والغاية والعدد واللقب ، وهو معتبر عند الشافعي إلا مفهوم اللقب . قال في التحرير : والحنفية ينفون مفهوم المخالفة بأقسامه في كلام الشارح فقط . ا هـ . فأفاد أنه في الروايات ونحوها معتبر بأقسامه حتى مفهوم اللقب وهو تعليق الحكم بجامد ، كقولك : صلاة الجمعة على الرجال الأحرار ، فيفهم منه عدم وجوبها على النساء والعبيد .

وفي شرح التحرير عن شمس الأئمة الكردري أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه في خطابات الشارع ، فأما ما في متفاهم الناس وعرفهم وفي المعاملات والعقليات فيدل . ا هـ . وتوضيح هذا المحل [ ص: 111 ] يطلب من حواشينا على شرح المنار ( قوله : بخلاف أكثر مفاهيم النصوص ) كالآيات والأحاديث لكونها من جوامع الكلم ، فتحتمل فوائد كثيرة تقتضي تخصيص المنطوق بالذكر ; ولذا ترى الخلف يستفيدون منها ما لم يدركه السلف ، بخلاف الرواية ; فإنه قلما يقع فيها تفاوت الأنظار ، والمراد مفاهيم المخالفة . أما مفاهيم الموافقة فمعتبرة مطلقا كما قدمناه ، وقيده بالأكثر لأن من النصوص ما يعتبر مفهومه كنص العقوبة ، كما يأتي .

( قوله : وفيه من الحد ) أي في النهر من كتاب الحد عند ذكر الجنايات ( قوله : في الروايات ) أي عن الأئمة ، والمراد في أكثرها كما يأتي ( قوله : ومنه ) أي من الذي يعتبر مفهومه اتفاقا ط ( قوله : تقييده ) أي ما ذكر من اعتبار المفهوم في أقوال الصحابة ط ( قوله : بما يدرك بالرأي ) أي ما للعقل فيه مجال وتصرف ط ( قوله : لا ما لم يدرك به ) أي لأنه في حكم المرفوع والمرفوع نص ، والنص لا يعتبر مفهومه ط قول ، ولهذا اتفق أصحابنا على تقليد الصحابة فيما لا يدرك بالرأي كما في أقل الحيض ، قالوا : إنه ثلاثة أيام أخذا بقول عمر رضي الله عنه ، لتعين جهة السماع .

( قوله : كما في قوله تعالى إلخ ) لأن أهل السنة ذكروا من جملة الأدلة على جواز رؤيته تعالى في الآخرة هذه الآية ; حيث جعل الحجب عن الرؤية عقوبة للفجار ، فيفهم منه أن المؤمنين لا يحجبون ، وإلا لم يكن ذلك عقوبة للفجار ( قوله : فأكثري لا كلي ) يحمل عليه ما مر عن النهر ، ومن غير الأكثر ما مر من تقييد الهداية بالمستيقظ ( قوله : إلى الرسغين ) تثنية رسغ بالسين والصاد ، وبضم فسكون أو بضمتين ، أفاده في القاموس ( قوله : : مفصل الكف ) على وزن منبر : ملتقى العظمات من الجسد قاموس ، وهو اسم جنس يصدق على ما فوق الواحد ; فلذا ساغ تفسير المثنى به تأمل .

( قوله : قال ) أي الشاعر ، وتساهلوا في حذف فاعله لأنه معلوم لأنه لا يقول النظم إلا شاعر ط ( قوله : لخنصره ) أي الشخص المعلوم من المقام ط ( قوله : في الوسط ) في بعض النسخ ما وسط : أي ما توسط بينهما ( قوله : فخذ بالعلم ) الباء زائدة أو أصلية والمفعول محذوف : أي خذ هذه المسائل بعلم لا بظن لأنه قد يوقع في الغلط ، أو ضمن خذ معنى الظفر ( قوله : ثم إن لم يمكن إلخ ) ثم للترتيب والتراخي في الأخبار لأنه من تتمة أول الكلام .

وفي كيفية الغسل تفصيل ذكر الشارح الخفي منه وترك الظاهر . قال في النهر : ثم كيفية هذا الغسل أن الإناء إن أمكن رفعه غسل اليمنى ثم اليسرى ثلاثا ، وإن لم يمكن لكن معه إناء صغير فكذلك ، وإلا أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة دون الكف وصب على اليمنى ثم يدخلها ويغسل اليسرى ا هـ . وفي البحر قالوا : يكره إدخال اليد في الإناء قبل الغسل للحديث ، وهي كراهة تنزيه ; لأن النهي فيه مصروف عن التحريم بقوله : { فإنه لا يدري أين باتت يده } فالنهي محمول على الإناء الصغير أو الكبير إذا كان معه إناء صغير ، فلا يدخل اليد أصلا ، وفي [ ص: 112 ] الكبير على إدخال الكف ، كذا في المستصفى وغيره ، وفي شرح الأقطع : يكره الوضوء بالماء الذي أدخل المستيقظ يده فيه ; لاحتمال النجاسة كالماء الذي أدخل الصبي يده فيه . ا هـ .

أقول : وظاهر التعليل أنه لو نام مستنجيا ولا نجاسة عليه لا يكره إدخال يده ولا الوضوء مما أدخل يده فيه لعدم احتمال النجاسة ، تأمل ( قوله : وصب على اليمنى ) أي ثم يدخلها ويغسل اليسرى كما مر ( قوله : لأجل التيامن ) فيه جواب عما قيل : لا حاجة إلى الصب على كل واحدة من كفيه على حدة ; لأنه يمكن غسل الكفين بما صبه على الكف اليمنى كما هو العادة . ورده في الدرر بأن فيه ترجيحا لعادة العوام على عرف الشرع : أي لأن عرف الشرع البداءة باليمين ، وبأن نقل البلة في الوضوء من إحدى اليدين أو الرجلين إلى الأخرى لا يجوز بخلاف الغسل . ا هـ .

أقول : لكن ذكر في الحلية أن ظاهر الأحاديث الجمع بينهما ، وأنه نص غير علمائنا على أنه لا يستحب التيامن هنا كما في غسل الخدين والمنخرين ومسح الأذنين والخفين إلا إذا تعذر ذلك فحينئذ يقدم اليمين منهما ، والقواعد لا تنبو عنه ا هـ ملخصا ، لكن يشكل عليه مسألة نقل البلة .

وقد يجاب بأن نقل البلة يجوز هنا بدليل ظاهر الأحاديث ، فتكون حينئذ عادة العوام موافقة لعرف الشرع ; ولذا قال ابن حجر في التحفة : ويسن غسلهما معا للاتباع انتهى فليتأمل ( قوله : ولو أدخل الكف إلخ ) محترز قوله : أدخل أصابع يسراه ( قوله : إن أراد الغسل ) أي غسل الكف ( قوله : صار الماء مستعملا ) أي الماء الملاقي للكف إذا انفصل لا جميع الماء بحر ، وفيه كلام طويل سيأتي في بحث المستعمل ( قوله : لا ) أي لا يصير مستعملا ; ومثله إذا وقع الكوز في الجب فأدخل يده إلى المرافق بحر ، وذلك للحاجة ، وإن وجدت علة الاستعمال وهي رفع الحدث كما أفاده ح ( قوله : ولو لم يمكنه الاغتراف إلخ ) في البحر والنهر عن المضمرات : لو يداه نجستان أمر غيره بالاغتراف والصب . فإن لم يجد أدخل منديلا فيغسل بما تقاطر منه ، فإن لم يجد رفع الماء بفيه ، فإن لم يقدر تيمم وصلى ولا إعادة عليه ا هـ قال في البحر : وفي مسألة رفع الماء بفيه اختلاف . والصحيح أنه يصير مستعملا وهو يزيل الخبث ا هـ : أي فيزيل ما على يديه من الخبث ثم يغسلهما للوضوء أفاده ط ( قوله : وهو سنة ) أراد بها مطلقها الشامل للمؤكدة وغيرها ح : أي لأنه عند توهم النجاسة سنة مؤكدة ، وعند عدمه غير مؤكدة كما قدمناه ( قوله : كما أن الفاتحة ) أي قراءتها واجبة وتنوب عن الفرض .

واعلم أن ما ذكره هنا من أنه سنة تنوب عن الفرض هو ما اختاره في الكافي وتبعه في الدرر ، وهو أحد أقوال ثلاثة لكنه مخالف لما أشار إليه صدر كلامه حيث عبر بالبداءة بغسل يديه ; فإنه ظاهر في اختيار القول بأنه فرض ، وتقديمه سنة كما قدمناه عن ابن كمال ، وهذا ما اختاره في الفتح والمعراج والخبازية والسراج ; لقول محمد في الأصل بعد غسل الوجه ، ثم يغسل ذراعيه ولم يقل يديه ، فلا يجب غسلهما ثانيا . قال في البحر : وظاهر كلام المشايخ أنه المذهب . وقال السرخسي : الأصح عندي أنه سنة لا تنوب عن الفرض فيعيد غسلهما . واستشكله في الذخيرة بأن المقصود التطهير وقد حصل . وأجاب الشيخ إسماعيل النابلسي بأن المراد عدم النيابة من حيث ثواب الفرض لو أتى به مستقلا قصدا إذ السنة لا تؤديه ويؤديه اتفاقهم على سقوط الحدث بلا نية . ا هـ . [ ص: 113 ] وحاصله أن الفرض سقط لكن في ضمن الغسل المسنون لا قصدا ، والفرض إنما يثاب عليه إذا أتى به على قصد الفرضية ; كمن عليه جنابة قد نسيها واغتسل للجمعة مثلا فإنه يرتفع حدثه ضمنا ولا يثاب ثواب الفرض وهو غسل الجنابة ما لم ينوه لأنه لا ثواب إلا بالنية ، وحينئذ فيسن أن يعيد غسل اليدين عند غسل الذراعين ليكون آتيا بالفرض قصدا ، ولا ينوب الغسل الأول منابه من هذه الجهة وإن ناب منابه من حيث إنه لو لم يعده سقط الفرض كما يسقط لو لم ينو أصلا .

ويظهر لي على هذا أنه لا مخالفة بين الأقوال الثلاثة لأن القائل بالفرضية أراد أنه يجزئ عن الفرض ، وأن تقديم هذا الغسل المجزئ عن الفرض سنة ، وهو معنى القول بأنه سنة تنوب عن الفرض . والظاهر أنه على هذين القولين يسن إعادة الغسل لما مر فتتحد الأقوال ، والله تعالى أعلم ( قوله : ويسن إلخ ) نقله في النهر عن الذخائر الأشرفية . وفيه تأييد لما ذكرناه آنفا حيث لم يقيده بأحد الأقوال ، إذ يبعد القول بأن إعادة غسلهما عبث وإسراف فافهم .




الخدمات العلمية