الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4569 4850 - حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟! قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط قط. فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله -عز وجل- من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله -عز وجل- ينشئ لها خلقا". [ انظر:4849 - مسلم:2846 - فتح: 8 \ 595]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يلقى في النار وتقول: هل من مزيد. حتى يضع قدمه فيها، فتقول: قط قط".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 278 ] ويأتي في التوحيد، وأخرجه الترمذي والنسائي .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عوف -هو الأعرابي- عن محمد -هو ابن سيرين - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان يعني: شيخ شيخه سعيد بن يحيى الحذاء "يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب عليها قدمه، فتقول: قط قط".

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟! قال الله -عز وجل- للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منهما ملؤها ; فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط. فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الكلام على ذلك من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              ( قط ) فيها ثلاث روايات: فتح القاف وسكون الطاء، وفتح القاف مع كسر الطاء من غير تنوين وبه، هذه ثلاث مع فتح القاف، ورابعة [ ص: 279 ] بكسرها وسكون الطاء، ومدلول ( قط ): حسب، وقيل: إن قط صوت جهنم، وقيل: مثل قوله: امتلأ الحوض [ وقال: ] قطني. أي: مثل ليس يتكلم حقيقة، وهذا السؤال من الله فيه معنى التوبيخ لمن دخلها وإلا فهو عالم بذلك وجعل الله لها عقوبة، وقولها: وتقول هل من مزيد تغيظا على العصاة.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا من الأحاديث المشكل ظاهرها وللعلماء فيها مسالك:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أبعدها: إنكارها جملة وتكذيبها، وهذا إفراط وطعن في الثقات. وأقربها: قبولها وإمرارها على ما جاءت من غير خوض فيها هو مذهب السلف، ومنهم من روى بعضها وأنكر أن يتحدث ببعضها وهو مالك روى حديث النزول وأوله، وأنكر أن يتحدث باهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما سلف، ومنهم من تأولها تأويلا يكاد أن يفضي فيه إلى القول بالتشبيه كقول ابن قتيبة في حديث الصور: لله صورة لا كالصور، تعالى الله عن ذلك ومذهب الخلف التأويل، [ ص: 280 ] واعلم قبل ذلك أنه لا يجوز أن تظن بالقدم هنا الجارحة، تعالى الله عن ذلك قال تعالى: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فإذا ملأها بغيرهم، ففيه مخالفة خبره، ولا يقع فيتعين ما ذكرناه وقد أول أن المراد به الموضع، وعليه مشى ابن حبان في "صحيحه" حيث قال: هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة. وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عصي الله عليها، فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب تعالى موضعا من الكفار والأمكنة في النار فتهدأ، لأن العرب تطلق في لغتها اسم القدم على الموضع، قال تعالى: لهم قدم صدق يريد موضع صدق، وكذا قال الحسن البصري أن القدم قوم يعذبهم الله من شرار خلقه إلى النار.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإسماعيلي: الروايتان جميعا ليس فيها من الذي يضع قدمه فيها، ونقول: إن شك من شك في الرواية فهو على توهمه أن القدم لا تكون إلا رجلا والرجل قدم، وقال مجاهد : قول النار: هل من مزيد أي: قد امتلأت وانتهيت بلا موضع في لمزيد، وقيل: إنما تقول تغيظا.

                                                                                                                                                                                                                              قال الإسماعيلي: هذا وجه من وجوه التأويل محتمل في اللغة فيكون خروج الحديث على ذلك أنها قد تزاد، وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد، وقال: وأما القدم فقد تكون لما قدم من شيء كما سمي ما خبط من الورق خبطا، ثم ذكر الآية السالفة أن لهم قدم صدق والمعنى ما قدموا من حسن، قال: فعلى هذا من لم يقدم [ ص: 281 ] إلا كفرا ومعاصي على العناد والجحود، فذلك قدمه [ و] قدمه ذلك هو ما قدمه للعذاب والعقاب الحالين به، والمعاندون من الكفار هم قدم العذاب في النار، وكذا قال ابن التين: لم يبين من المواضع قدمه في هذا الحديث، ومن ذلك في حديث أبي سفيان : الرب سبحانه، إلا أنه لم يرفع الحديث مرة ورفعه أخرى، قال: وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان ، كذا وقع يوقفه رباعيا من أوقف يوقف، والمشهور في اللغة وقفت الدابة وغيرها، قال ابن فارس يقال: للذي يأتي الشيء ثم ينزع عنه قد أوقف. فيحتمل أن يكون أوقفه ثم لم يرفعه فيصح على هذا، وأكثر ما كان يوقفه.

                                                                                                                                                                                                                              والحاصل أن الثابت إما صريح الإضافة من غير رفع، وإما رفع من غير تصريح بها.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وأما رواية ( رجله ) على ما ورد في بعض النسخ كما سلف فإما أن يدعى أنها من تحريف بعض الرواة، أو تأول بالجماعة كقولهم: رجل من جراد، أي: جماعة، كما نبه عليه ابن الجوزي ، ويكون مثل قول من قال: القدم جماعة. وضعفها ابن فورك حيث قال: روي من وجه غير ثابت "حتى يضع رجله فيها فيزوي" وليس بجيد منه وكذا قال بعده: أنه غير ثابت عند أهل النقل، وزعم بعضهم أنه أراد بالقدم هنا قدم بعض خلقه، فأضيف إليه كما يقال: ضرب [ ص: 282 ] الأمير اللص، وقيل: يحلف الله ذلك اليوم، وقال بعضهم: أراده الجبار المتجبر من الخلق ; لأن ذلك من الأوصاف المشتركة دون الخاصة لله، قال تعالى: كل جبار عنيد فإذا كان كذلك احتمل أن يكون أراد بالجبار جنس الجناية وأن جهنم لم تمتلئ إلا بهم، وقال بعضهم: الجبار هنا إبليس ; لأنه أول من تكبر على الله، والتكبر على الله والتجبر بمعنى، وجهنم تمتلئ به وبشيعته ولا ينكر وصفهم بالجوارح والأعضاء.

                                                                                                                                                                                                                              وحكى الداودي أنهم من يخرج بشفاعته - عليه السلام - من النار، وقيل: ( إنه مثل يراد به إثبات معنى لاحظ الظاهر الاسم فيه من طريق الحقيقة ) وإنما أريد بوضع الرجل عليها نوع من الزجر لها كما يقول القائل لشيء يريد محوه وإبطاله دخلته تحت رجلي، وضعته تحت قدمي ولما خطب - عليه السلام - عام الفتح قال: "ألا إن كل دم ومأثرة في الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة البيت" يريد محو تلك المآثر وأكثر ما تضرب العرب من أمثالها بأسماء الأعضاء لا تريد أعيانها كقولهم لمن ندم في شيء: سقط في يده، وكقولهم: رغم أنفه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 283 ] ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              محاجة الجنة والنار تحتمل أن تكون بلسان الحال أو المقال ولا مانع من أن الله يجعل لهما لسانا تميزان وتدركان به -كما سلف- يتحاجان، ولا يلزم من هذا التمييز دوامه فيهما.

                                                                                                                                                                                                                              (وسقطهم ) بفتح القاف: ضعفاؤهم المحقرون منهم، يريد شواذ الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يقبلون السنة فتدخل عليهم الفتنة فهم ثابتو الإيمان صحيحو العقائد وهم أكثر أهل الجنة، وأما العارفون والعلماء العاملون والصلحاء المتعبدون فهم قليلون، وهم أصحاب الدرجات العلى.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( "وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا" ) هو دال -كما قال النووي- لمذهب أهل السنة من أن الثواب ليس متوقفا على الأعمال، فإن هؤلاء يخلقون حينئذ، ويعطون في الجنة ما يعطون بغير عمل، ومثله الأطفال والمجانين الذين لم يعملوا طاعة وكلهم في الجنة بفضله، وفيه دلالة على سعة الجنة فقد جاء في الصحيح أن للواحد فيها مثل الدنيا وعشرة أمثالها، ثم يبقى فيها شيء يخلق، فينشئهم الله لها، ويروى أن الله لما خلقها قال لها: امتدي، فهي تتسع دائما أسرع من النبل إذا خرج من القوس.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية