الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ المسألة الثانية ]

[ شروط الإحصان ]

وأما الإحصان فإنهم اتفقوا على أنه من شرط الرجم . واختلفوا في شروطه ، فقال مالك : البلوغ والإسلام والحرية والوطء في عقد صحيح ، وحالة جائز فيها الوطء ، ( والوطء المحظور عنده : هو الوطء في الحيض أو في الصيام ) ، فإذا زنى بعد الوطء الذي بهذه الصفة - وهو بهذه الصفات - فحده عنده الرجم ، ووافق أبو حنيفة مالكا في هذه الشروط إلا في الوطء المحظور; واشترط في الحرية أن تكون من الطرفين ( أعني : أن يكون الزاني والزانية حرين ) ، ولم يشترط الإسلام الشافعي .

وعمدة الشافعي ما رواه مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، وهو حديث متفق عليه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهودية واليهودي اللذين زنيا " إذ رفع إليه أمرهما اليهود ، والله تعالى يقول ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) .

وعمدة مالك من طريق المعنى أن الإحصان عنده فضيلة ولا فضيلة مع عدم الإسلام ، وهذا مبناه على أن الوطء في نكاح صحيح هو مندوب إليه ، فهذا هو حكم الثيب .

وأما الأبكار فإن المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنى الجلد مائة لقوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) واختلفوا في التغريب مع الجلد ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تغريب أصلا ، وقال الشافعي : لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى ، حرا كان أو عبدا ، وقال مالك : يغرب الرجل ولا تغرب المرأة ، وبه قال الأوزاعي ، ولا تغريب عند مالك على العبيد .

[ ص: 749 ] فعمدة من أوجب التغريب على الإطلاق حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ، وكذلك ما خرج أهل الصحاح عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا : " إن رجلا من الأعراب أتى النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، فقال الخصم وهو أفقه منه : نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل ، قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : أما الوليدة والغنم فرد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها أنيس فاعترفت ، فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بها فرجمت " . ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس ; لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنى ، وهذا من القياس المرسل ( أعني : المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك ) .

وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب ، وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد . ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب . وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا .

وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة ، فإن العبيد صنفان : ذكور ، وإناث .

أما الإناث فإن العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة لقوله تعالى : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) واختلفوا إذا لم تتزوج ، فقال جمهور فقهاء الأمصار : حدها خمسون جلدة ، وقالت طائفة : لا حد عليها ، وإنما عليها تعزير فقط ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وقال قوم : لا حد على الأمة أصلا .

والسبب في اختلافهم الاشتراك الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى : ( فإذا أحصن ) فمن فهم من الإحصان التزوج وقال بدليل الخطاب قال : لا تجلد غير المتزوجة ، ومن فهم من الإحصان الإسلام جعله عاما في المتزوجة وغيرها .

واحتج من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي - عليه الصلاة والسلام - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : " إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " .

وأما الذكر من العبيد ، ففقهاء الأمصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة ، وقال أهل الظاهر : بل حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى : ( فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) ولم يخصص حرا من عبد . ومن الناس من درأ الحد قياسا على الأمة وهو شاذ . وروي عن ابن عباس . فهذا هو القول في أصناف الحدود وأصناف المحدودين والشرائط الموجبة للحد في واحد واحد منهم .

ويتعلق بهذا القول في كيفية الحدود ، وفي وقتها .

[ ص: 750 ] [ كيف تقام الحدود ؟ ]

فأما كيفيتها فمن مشهور المسائل الواقعة في هذا الجنس اختلافهم في الحفر للمرجوم ، فقالت طائفة : يحفر له ، وروي ذلك عن علي في شراحة الهمدانية حين أمر برجمها ، وبه قال : أبو ثور ، وفيه : " فلما كان يوم الجمعة أخرجها فحفر لها حفيرة فأدخلت فيها وأحدق الناس بها يرمونها ، فقال : ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضا ، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة ، ثم قال : الرجم رجمان : رجم سر ورجم علانية ، فما كان منه إقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس ، وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الإمام ثم الناس . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يحفر للمرجوم ، وخير في ذلك الشافعي ، وقيل عنه : يحفر للمرأة فقط .

وعمدتهم ما خرج البخاري ومسلم من حديث جابر ، قال جابر : فرجمناه بالمصلى ، فلما أذلقته الحجارة فر ، فأدركناه بالحرة فرضخناه . وقد روى مسلم أنه حفر له في اليوم الرابع حفرة . وبالجملة فالأحاديث في ذلك مختلفة . قال أحمد : أكثر الأحاديث على أن لا حفر .

وقال مالك : يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : يضرب سائر الأعضاء ويتقى الفرج والوجه ، وزاد أبو حنيفة الرأس .

ويجرد الرجل عند مالك في ضرب الحدود كلها ، وعند الشافعي وأبي حنيفة ما عدا القذف على ما سيأتي بعد ، ويضرب عند الجمهور قاعدا ولا يقام قائما خلافا لمن قال : إنه يقام لظاهر الآية .

ويستحب عند الجميع أن يحضر الإمام عند إقامة الحدود طائفة من الناس لقوله تعالى : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) . واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة ، فقال مالك : أربعة ، وقيل : ثلاثة ، وقيل : اثنان ، وقيل : سبعة ، وقيل : ما فوقها .

[ وقت إقامة الحد ]

أما الوقت ، فإن الجمهور على أنه لا يقام في الحر الشديد ولا في البرد ، ولا يقام على المريض ، وقال قوم : يقام ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، واحتجا بحديث عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض .

وسبب الخلاف معارضة أهل الظواهر للمفهوم من الحد ، وهو أن يقام حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود .

فمن نظر إلى الأمر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال : يحد المريض ، ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال : لا يحد المريض حتى يبرأ ، وكذلك الأمر في شدة الحر والبرد .

التالي السابق


الخدمات العلمية