الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1825 34 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن قال : كنت أنا وأبي حين دخلنا على عائشة وأم سلمة ح حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: أقسم بالله لتقرعن بها أبا هريرة، ومروان يومئذ على المدينة ، فقال أبو بكر : فكره ذلك عبد الرحمن ، ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة ، وكانت لأبي هريرة هنالك أرض، فقال عبد الرحمن لأبي هريرة : إني ذاكر لك أمرا ولولا مروان أقسم علي فيه لم أذكره لك فذكر قول عائشة وأم سلمة ، فقال كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " كان يدركه الفجر وهو جنب " .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله: وهم عشرة : الأول : عبد الله بن مسلمة القعنبي . الثاني : مالك بن أنس . الثالث : سمي بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف ، وقد مر في الأذان . الرابع : أبو بكر بن عبد الرحمن القرشي راهب قريش ، مر في الصلاة . الخامس : عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ابن عم عكرمة بن أبي جهل بن هشام ، مات سنة ثلاث وأربعين . السادس : أبو اليمان الحكم بن نافع . السابع : شعيب بن أبي حمزة . الثامن : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري . التاسع : أم المؤمنين عائشة . العاشر : أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد وبصيغة [ ص: 3 ] الإفراد في موضعين ، وبصيغة التثنية في موضع واحد ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه السماع في موضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أبو اليمان وشعيب حمصيان ، والبقية كلهم مدنيون ، وفيه أربعة من التابعين وهم أبو بكر، وأبوه عبد الرحمن، والزهري، ومروان .

                                                                                                                                                                                  ذكر الاختلاف فيه : فيه اختلاف كثير جدا على أبي بكر بن عبد الرحمن وغيره ، وقد اختلف فيه على الزهري أيضا؛ ففي رواية النسائي من طريق إسماعيل بن أمية ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عائشة، وحديث عائشة رواه ابن ماجه من رواية الشعبي ، عن مسروق عنها بمعناه ، وقد اختلف فيه على الشعبي أيضا ، وحديث عائشة وأم سلمة فيه قصة لم يذكرها الترمذي ، وذكرها مسلم من طريق ابن جريج قال : أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن " عن أبي بكر قال : سمعت أبا هريرة يقص يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنبا فلا يصم قال : فذكر ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث لأبيه ، فأنكر ذلك ، فانطلق عبد الرحمن ، وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك . فكلتاهما قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم . قال : فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فذكر ذلك له عبد الرحمن . فقال مروان : عزمت عليه إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول : فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله قالا : فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة لهما : قالتاه لك ؟ قال : نعم . قال : هما أعلم ، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس . قال : أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فرجع أبو هريرة عما كان يقول من ذلك " الحديث هكذا ذكره مسلم لم يرفع قول أبي هريرة ، وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدركه الصبح جنبا فلا صوم له " وذكر الحديث بنحوه ، ومن طريق عبد الرزاق رواه ابن حبان في صحيحه ، وقد رواه البخاري أخصر منه من رواية ابن شهاب إلى قوله : " كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم " .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية للنسائي من رواية أبي عياض ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام : فأتاه فأخبره قال : هن أعلم يريد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر أبو هريرة في هذه الرواية من حدثه ، وهكذا النسائي أيضا من رواية ابن أبي ذئب ، عن عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن جده أن عائشة أخبرته ليس فيه ذكر أم سلمة ، وفيه : فذهب عبد الرحمن فأخبره بذلك . قال أبو هريرة : فهي أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا ، إنما كان أسامة بن زيد حدثني ذلك ، ففي هذه الرواية أن المخبر لأبي هريرة أسامة ، وقد تقدم أنه الفضل ، وفي رواية للنسائي : أخبرنيه مخبر ، وفي رواية له : فقال : هكذا كنت أحسب ولم يحكه عن أحد ، وفي رواية للنسائي من رواية الحكم ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة فقال : عائشة إذا أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  ولابن حبان من رواية عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه فقال : هما أعلم يريد عائشة وأم سلمة ، وفي مصنف عبد الرزاق من رواية الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : هكذا حدثني الفضل بن عباس وهن أعلم ، وفيه أيضا من الاختلاف ما يقتضي أن عبد الرحمن لم يشافه عائشة وأم سلمة بالسؤال عن ذلك ، ففي النسائي من رواية أبي عياض " عن عبد الرحمن بن الحارث قال : أرسلني مروان إلى عائشة فأتيتها فلقيت غلامها ذكوان ، فأرسلته إليها فسألها عن ذلك ، وفيه " فأرسلني إلى أم سلمة فلقيت غلامها نافعا ، فأرسلته إليها ، فسألها عن ذلك " الحديث، والأحاديث التي فيها أن عبد الرحمن شافهها بالسؤال أكثر وأصح ، ومع هذا فيجوز أن يكون أرسل المولى أولا، ثم أتى هو فشافهته ، أو أن المولى كان واسطة في الدخول عليها مع عبد الرحمن .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " وحدثنا أبو اليمان " عطف على قوله : " حدثنا عبد الله بن مسلمة " فأخرجه من طريقين، وأخرجه بقية الأئمة الستة خلا ابن ماجه من طرق عديدة . قوله : " كنت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة" هكذا أورده البخاري في هذا الطريق من رواية مالك مختصرا ، ثم ذكر الطريق الثاني عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الله وربما يظن ظان أن سياقهما واحد ، وليس كذلك فإنه يذكر لفظ مالك بعدما بين ، وليس فيه ذكر مروان ولا قصة أبي هريرة ، نعم قد رواه مالك في الموطأ ، عن سمي مطولا ، ورواه مالك في الموطأ ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن [ ص: 4 ] مختصرا وأخرجه مسلم من هذا الوجه وقال : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، " عن عائشة وأم سلمة زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا : إن كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم " . قوله : " إن أباه عبد الرحمن أخبر مروان، هو مروان بن عبد الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن قصي القرشي الأموي أبو عبد الملك ، ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل: بأربع ، ولم يصح له سماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال مالك : ولد يوم أحد ، وقيل يوم الخندق ، وقيل ولد بمكة ، وقيل بالطائف ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى النبي صلى الله عليه وسلم أباه الحكم ، وكان مع أبيه حتى استخلف عثمان رضي الله تعالى عنه فردهما، واستكتب عثمان مروان ، وضمه إليه ، واستعمله معاوية على المدينة ومكة والطائف ثم عزله عن المدينة سنة ثمان وأربعين ، ولما مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يعهد إلى أحد بايع الناس بالشام مروان بالخلافة ، ثم مات وكانت خلافته تسعة أشهر ، مات في رمضان سنة خمس وستين ، روى له الجماعة سوى مسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " كان يدركه الفجر وهو جنب " أي والحال أنه جنب من أهله ، ثم يغتسل ويصوم وفي رواية يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة وأبي بكر بن عبد الرحمن ، " عن عائشة كان يدركه الفجر في رمضان من غير حلم " وسيأتي بعد بابين ، وفي رواية للنسائي من طريق عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، " عن أبيه عنها كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم " وفي لفظ له " كان يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام " .

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي : في هذا فائدتان : إحداهما أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز . والثانية أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم إذ الاحتلام من الشيطان ، وهو معصوم منه . قيل : في قول عائشة من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه ، وإلا لما كان لاستثنائه معنى . ورد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم عنه ، ولكن الاحتلام يطلق على الإنزال وقد يقع الإنزال من غير رؤية شيء في المنام .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث أقسم بالله لتقرعن بها أبا هريرة " وفي رواية النسائي من طريق عكرمة بن خالد ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن فقال مروان لعبد الرحمن: الق أبا هريرة فحدثه بهذا . فقال : إنه لجاري وإني لأكره أن أستقبله بما يكره فقال أعزم عليك لتلقينه ، ومن طريق عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه فقال عبد الرحمن لمروان : غفر الله لك إنه لي صديق ولا أحب أن أرد عليه " . قوله : " وكان سبب ذلك أن أبا هريرة كان يفتي أن من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم " على ما رواه مالك ، عن سمي ، " عن أبي بكر أن أبا هريرة كان يقول : من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم " وفي رواية للنسائي من طريق المقبري : كان أبو هريرة يفتي الناس أن من أصبح جنبا فلا يصوم ذلك اليوم " وإليه كان يذهب إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس ولكن أبا هريرة لم يثبت على قوله هذا، حيث رد العلم بهذه المسألة إلى عائشة فقال : عائشة أعلم مني أو قال : أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وقال أبو عمر: روى عن أبي هريرة محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان الرجوع عن ذلك وحكاه الحازمي ، عن سعيد بن المسيب وقال الخطابي وابن المنذر : أحسن ما سمعت من خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه منسوخ لأن الجماع كان محرما على الصائم بعد النوم ، فلما أباح الله تعالى الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم لارتفاع الحظر ، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول : ولم يعلم بالنسخ ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة رجع إليه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لتفزعن " بالفاء والزاي من الفزع وهو الخوف أي لتخيفنه بهذه القصة التي تخالف فتواه، وقد أكد هذا باللام والنون المشددة، وهذا كذا وقع في رواية الأكثرين ، ووقع في رواية الكشميهني " لتقرعن " من القرع بالقاف والراء أي لتقرعن أبا هريرة بهذه القصة يقال : قرعت بكذا سمع فلان إذا أعلمته به إعلاما صريحا ، وقال الكرماني : ويروى " لتعرفن " من التعريف . قوله : " ومروان يومئذ على المدينة " أي حاكما عليها من جهة معاوية بن أبي سفيان . قوله : " فكره ذلك عبد الرحمن " أي فكره عبد الرحمن فعل ما قاله مروان من قرع أبي هريرة وإفزاعه فيما كان يفتي به . قوله : " ثم قدر لنا " أي قال : أبو بكر بن عبد الرحمن ثم بعد ذلك قدر الله لنا الاجتماع بذي الحليفة ، وهو الموضع المعروف وهو ميقات أهل المدينة ، وكان لأبي هريرة هنالك أي في ذي الحليفة أرض ، وكان أبو هريرة هناك في ذلك الوقت ، فإن قلت ففي رواية مالك [ ص: 5 ] " فقال مروان لعبد الرحمن : أقسمت عليك لتركبن دابتي فإنها بالباب ، ولتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ، فركب عبد الرحمن وركبت معه " أي قال أبو بكر بن عبد الرحمن : وركبت مع عبد الرحمن ، فهذه تخالف رواية الكتاب ، فإن العقيق غير ذي الحليفة؛ لأن العقيق واد بظاهر المدينة مسيل للماء ، وهو الذي ورد ذكره في الحديث أنه واد مبارك ، وكل مسيل شقه ماء السيل فهو عقيق ، والجمع أعقة . قلت : لا تخالف بين الروايتين من حيث إن أبا هريرة كانت له أرض أيضا بالعقيق ، فالظاهر أن أبا بكر وأباه عبد الرحمن قصدا أبا هريرة للاجتماع له امتثالا لأمر مروان ، فأتيا إلى العقيق بناء على أنه هناك فلم يجداه ، فذهبا إلى ذي الحليفة فوجداه هناك . فإن قلت : وقع في رواية معمر، عن الزهري ، عن أبي بكر فقال مروان : عزمت عليكما لما ذهبتما إلى أبي هريرة قال : فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد .

                                                                                                                                                                                  قلت : الجواب الحسن هنا أن يقال : المراد بالمسجد مسجد ذي الحليفة؛ لأنهم ذكروا أن بذي الحليفة عدة آبار ومسجدين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال بعضهم : الظاهر أن المراد بالمسجد هنا مسجد أبي هريرة بالعقيق لا المسجد النبوي . قلت : سبحان الله ما أبعد هذا من منهج الصواب؛ لأنه قال أولا في التوفيق بين قوله بذي الحليفة وقولهبالعقيق يحتمل أن يكونا يعني أبا بكر وأباه عبد الرحمن قصدا إلى العقيق بناء على أن أبا هريرة فيها فلم يجداه . قال : ثم وجداه بذي الحليفة ، وكان له بها أيضا أرض ، ومعنى كلامه أنهما لما لم يجداه بالعقيق ذهبا إلى ذي الحليفة فوجداه هناك عند باب المسجد ، فيلزم من مقتضى كلامه أنهم عادوا من ذي الحليفة إلى العقيق ، ولقياه فيها عند باب المسجد ، وهذا كلام خارج أجنبي عن مقتضى معنى التركيب؛ لأنهم لو كانوا عادوا من ذي الحليفة إلى العقيق كيف كان أبو بكر وعبد الرحمن يقولان: لقينا أبا هريرة عند باب المسجد ، والحال أن أبا هريرة كان معهما على مقتضى كلامه ، ثم ذكر هذا القائل وجها آخر أبعد من الأول حيث قال : أو يجمع بأنهما التقيا بالعقيق ، فذكر له عبد الرحمن القصة مجملة ، أو لم يذكرها ، بل شرع فيها ثم لم يتهيأ له ذكر تفصيلها وسماع جواب أبي هريرة إلا بعد أن رجعا إلى المدينة وأرادا دخول المسجد النبوي .

                                                                                                                                                                                  قلت : الذي حمله على هذا التفسير تفسيره المسجد بمسجد العقيق ، ولو فسره بمسجد ذي الحليفة لاستراح وأراح ، على أنا نقول من قال : إنه كان لأبي هريرة مسجد بالعقيق، وأما المسجد الذي بذي الحليفة فقد نص عليه أهل السير والإخباريون ، ولا دلالة أصلا في الحديث على هذا التوجيه الذي ذكره ، ولا قال به أحد قبله . قوله : " إني ذاكر أمرا " وفي رواية الكشميهني " إني أذكر لك " بصيغة المضارع . قوله : " لم أذكره لك " وفي رواية الكشميهني " لم أذكر ذلك " . قوله : " كذلك حدثني الفضل بن عباس " وقد أحال أبو هريرة فيه مرة على الفضل ، ومرة على أسامة بن زيد فيما رواه عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن جده ، ومرة قال : أخبرنيه مخبر ، ومرة قال : حدثني فلان وفلان فيما رواه ابن حبان، عن عبد الملك بن أبي بكر ، عن أبيه عنه على ما ذكرناه عن قريب ، وروي عنه أنه قال : لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح جنبا فلا يصم، محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ورب الكعبة قاله ثم حدثنيه الفضل . قوله : " وهو أعلم " أي الفضل أعلم مني بما روى ، والعهدة عليه في ذلك لا علي .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه بيان الحكم الذي بوب الباب لأجله ، وفيه دخول الفقهاء على السلطان ومذاكرتهم له بالعلم ، وفيه ما كان عليه مروان من الاشتغال بالعلم ومسائل الدين مع ما كان عليه من الدنيا ، ومروان عندهم أحد العلماء ، وكذلك ابنه عبد الملك ، وفيه ما يدل على أن الشيء إذا تنوزع فيه رد إلى من يظن أنه يوجد عنده علم منه ، وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بهذا المعنى بعده ، وفيه أن من كان عنده علم في شيء وسمع بخلافه كان عليه إنكاره من ثقة سمع ذلك أو غيره حتى يتبين له صحة خلاف ما عنده ، وفيه أن الحجة القاطعة عند الاختلاف فيما لا نص فيه من الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه إثبات الحجة في العمل بخبر الواحد العدل ، وأن المرأة في ذلك كالرجل سواء ، وأن طريق الإخبار في هذا غير طريق الشهادات ، وفيه طلب الحجة وطلب الدليل، والبحث على العلم حتى يصح فيه وجه ، ألا ترى أن مروان لما أخبره عبد الرحمن بن الحارث ، عن عائشة وأم سلمة بما أخبره به من هذا الحديث بعث إلى أبي هريرة طالبا [ ص: 6 ] للحجة وباحثا عن موقعها ليعرف من أين قال أبو هريرة ما قاله من ذلك ، وفيه اعتراف العالم بالحق، وإنصافه إذا سمع الحجة ، وهكذا أهل العلم والدين أولو إنصاف واعتراف ، وفيه دليل على ترجيح رواية صاحب الخبر إذا عارضه حديث آخر ، وترجيح ما رواه النساء مما يختص بهن إذا خالفهن فيه الرجال ، وكذلك الأمر فيما يختص بالرجال على ما أحكمه الأصوليون في باب الترجيح للآثار ، وفيه حسن الأدب مع الأكابر ، وتقديم الاعتذار قبل تبليغ ما يظن المبلغ أن المبلغ يكرهه .

                                                                                                                                                                                  وقد اختلف العلماء فيمن أصبح جنبا وهو يريد الصوم : هل يصح صومه أم لا على سبعة أقوال : الأول : أن الصوم صحيح مطلقا فرضا كان أو تطوعا أخر الغسل عن طلوع الفجر عمدا أو لنوم أو نسيان لعموم الحديث وبه قال علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو ذر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم ، وقال أبو عمر : إنه الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز، أئمة الفتوى بالأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث وأصحابهم وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن علية وأبو عبيدة وداود وابن جرير الطبري وجماعة من أهل الحديث . الثاني : أنه لا يصح صوم من أصبح جنبا مطلقا ، وبه قال الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد وأبو هريرة ، ثم رجع أبو هريرة عنه كما ذكرناه . الثالث : التفرقة بين أن يؤخر الغسل عالما بجنابته أم لا ، فإن علم وأخره عمدا لم يصح وإلا صح، روي ذلك عن طاوس وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي ، وقال صاحب الإكمال ومثله ، عن أبي هريرة . الرابع : التفرقة بين الفرض والنفل فلا يجزيه في الفرض ، ويجزيه في النفل ، روي ذلك عن إبراهيم النخعي أيضا حكاه صاحب الإكمال عن الحسن البصري ، وحكى أبو عمر عن الحسن بن حي أنه كان يستحب لمن أصبح جنبا في رمضان أن يقضيه ، وكان يقول : يصوم الرجل تطوعا وإن أصبح جنبا فلا قضاء عليه . الخامس : أن يتم صومه ذلك اليوم ويقضيه ، روي ذلك عن سالم بن عبد الله ، والحسن البصري أيضا ، وعطاء بن أبي رباح . السادس : أنه يستحب القضاء في الفرض دون النفل ، حكاه في الاستذكار عن الحسن بن صالح بن حي . السابع : أنه لا يبطل صومه إلا أن تطلع عليه الشمس قبل أن يغتسل ويصلي فيبطل صومه ، قاله ابن حزم بناء على مذهبه في أن المعصية عمدا تبطل الصوم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : حديث الفضل فيه أن من أصبح جنبا فلا يصوم وحديث عائشة وأم سلمة فيه حكاية فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا ثم يصوم ، فهلا جمعتم بين الحديثين بحمل حديثهما على أنه من الخصائص ، وحديث الفضل لغيره من الأمة، وأيضا فليس في حديثيهما أنه أخر الغسل عن طلوع الفجر عمدا ، فلعله نام عن ذلك . قلت : الأصل عدم التخصيص ، ومع ذلك ففي الحديث التصريح بعدم الخصوص ، فروى مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ، عن أبي يونس مولى عائشة " عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو واقف على الباب وأنا أسمع : يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم . فقال له الرجل : يا رسول الله إنك لست مثلنا؛ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " ومن طريق مالك أخرجه أبو داود وأخرجه مسلم والنسائي من رواية إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بنحوه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية