الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وتسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء ) لقوله عليه الصلاة والسلام { لا وضوء [ ص: 22 ] لمن لم يسم الله } والمراد به نفي الفضيلة ، والأصح أنها مستحبة وإن سماها في الكتاب سنة ، [ ص: 23 - 24 ] ويسمي قبل الاستنجاء وبعده هو الصحيح .

التالي السابق


( قوله وتسمية الله تعالى ) لفظها المنقول عن السلف ، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم : باسم [ ص: 22 ] الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام ، وقيل الأفضل : بسم الله الرحمن الرحيم بعد التعوذ ، وفي المجتبى يجمع بينهما ، وفي المحيط : لو قال لا إله إلا الله أو الحمد لله أو أشهد أن لا إله إلا الله يصير مقيما للسنة ، وهو بناء على أن لفظ بسم أعم مما ذكرنا .

ولفظ أبي داود { لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه } وضعف بالانقطاع ، وهو عندنا كالإرسال بعد عدالة الرواة وثقتهم لا يضر ، ورواه ابن ماجه من حديث كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال { لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه } وأعل بأن ربيحا ليس بمعروف . ونوزع في ذلك عن أبي زرعة : ربيح شيخ ، وقال ابن عمار : ثقة ، وقال البزار : روى عنه فليح بن سليمان وعبد العزيز الدراوردي وكثير بن زيد وغيرهم ، قال : الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن التسمية في الوضوء فقال : أحسن ما فيها حديث كثير بن زيد ، ولا أعلم فيها حديثا ثابتا ، وأرجو أن يجزئه الوضوء ; لأنه ليس فيه حديث أحكم به ا هـ .

( قوله والأصح أنها مستحبة إلخ ) يجوز كون مستنده فيه ضعف الأحاديث ، ويجوز كونه بحديث المهاجر بن قنفذ قال : { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد علي ، فلما فرغ قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء } رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه ، ورواه أبو داود من حديث محمد بن ثابت العبدي حدثنا نافع قال : انطلقت مع عبد الله بن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فلما قضى حاجته كان من حديثه قال { مر النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول إذ سلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام ، ثم إنه ضرب بيده الحائط فمسح وجهه مسحا ثم ضرب ضربة فمسح ذراعيه إلى المرفقين ثم كفه وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على طهارة } وما في الصحيحين { أنه صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام } . وروى البزار هذه القصة من حديث أبي بكر رجل من آل عمر بن الخطاب وزاد وقال : { إنما رددت عليك خشية أن تقول سلمت عليه فلم يرد علي ، فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي فإني لا أرد عليك } وأبو بكر هذا هو ابن عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ، قاله عبد الحق ولا بأس به ، ووقع مصرحا باسمه ونسبه هذا في مسند السراج .

وروى ابن ماجه عن جابر { أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فقال : إذا [ ص: 23 ] رأيتني على هذه الحالة إلخ } ولينظر في التوفيق بين هذه وكيف كان فهي متظافرة على عدم ذكره صلى الله عليه وسلم اسم الله تعالى على غير طهارة ، ومقتضاه انتفاؤه في أول الوضوء الكائن عن حدث ، وما أعل به غير قادح للمتأمل فهي معارضة لخبر التسمية بعد القول بحسنه بناء على أن كثرة طرق الضعيف ترقيه إلى ذلك وهو أوجه القولين على ما سنبينه في غير موضع إن شاء الله تعالى ، بل بعضها بخصوصه حسن لمن تأمل كلام أهل الشأن عليها فيخرجه من السنة كما أخرجه عن الإيجاب الذي هو ظاهره ، وكذا عدم نقلها في حكاية علي وعثمان يدل على ما قلنا .

والجواب أن الضعف منتف لما قلنا ، والمعارضة غير متحققة ; لأن كراهة ذكر الله لا يكون من متممات الوضوء لا يستلزم كراهة ما جعل شرعا من ذكر الله تعالى تكميلا له بعد ثبوت جعله كذلك بالحديث الحسن ، فذلك الذكر ضروري للوضوء الكامل شرعا فلا تعارض للاختلاف ، وعدم نقلها في حكايتيهما إما ; لأنهما إنما حكيا الأفعال التي هي الوضوء والتسمية ليست من نفسه بل ذكر يفتتح هو بها ، وصدق هذا التركيب يفيد خروجها عن مسماه ، وإما لعدم نقل الرواة عنهما ، وإن قالاها ; إذ قد ينقل الراوي بعض الحديث اشتغالا بالمهم بناء على اشتهار الافتتاح بالتسمية بين السلف في كل أمر ذي بال ، كما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه { كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع } وفي رواية { أجذم } وفي رواية { لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم } رواها ابن حبان من طريقين وحسنه ابن الصلاح وإن كان فيه قرة .

وبالجملة عدم النقل لا ينفي الوجود فكيف بعد الثبوت بوجه آخر ، ألا يرى أنهم لم ينقلوا من حكايتهما التخليل ، ولا شبهة في اعتقادي أنه من فعله صلى الله عليه وسلم وكذا لم ينقلوا السواك وهو عند أصحابنا من سنن الوضوء ، وبعض من حكى لم يحك غسل اليدين أولا ولم يقدح ذلك في ثبوتها إذا ثبت بطرق .

بقي أن يقال فإذا سلم خبر التسمية عن المعارض مع حجيته فما موجب العدول به إلى نفي الكمال وترك ظاهره من الوجوب ؟ فإن قلنا : إنه حديث { إذا تطهر أحدكم فذكر اسم الله تعالى عليه فإنه يطهر جسده كله فإن لم يذكر اسم الله تعالى على طهوره لم يطهر إلا ما مر عليه الماء } فهو حديث ضعيف ، إنما يرويه عن الأعمش يحيى بن هاشم وهو متروك .

وإن قلنا إنه حديث المسيء صلاته فإن في بعض طرقه أنه صلى الله عليه وسلم قال له { إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله } وفي لفظ { إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثم يكبر الله تعالى ويحمده } الحديث حسنه الترمذي ، ولم يذكر فيه تسمية في مقام التعليم ، فقد أعله ابن القطان بأن يحيى بن علي بن خلاد لا يعرف له حال وهو من رواته ، فأدى النظر إلى وجوب التسمية في الوضوء ، غير أن صحته لا تتوقف عليها ; لأن الركن إنما يثبت بالقاطع ، وبهذا يندفع ما قيل المراد به نفي الفضيلة ، وإلا يلزم نسخ آية الوضوء به : يعني الزيادة عليها فإنه إنما يلزم بتقدير الافتراض لا الوجوب .

وما قيل إنه لا مدخل للوجوب في الوضوء ; لأنه شرط تابع ، فلو قلنا بالوجوب فيه المساوي التبع الأصل غير لازم إذ اشتراكهما بثبوت الواجب فيهما لا يقتضيه لثبوت عدم المساواة بوجه آخر نحو إنه لا يلزم بالنذر ، بخلاف الصلاة مع أنه لا مانع من الحكم بأن واجبه أحط رتبة من واجب الصلاة كفرضه بالنسبة إلى فرضها .

فإن قيل : يرد عليه ما قالوه من أن الأدلة السمعية على أربعة أقسام .

الرابع منها ما هو ظني الثبوت والدلالة وأعطوا حكمه إفادة السنية والاستحباب وجعلوا منه خبر التسمية ، وصرح [ ص: 24 ] بعضهم بأن وجوب الفاتحة ليس من قوله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } بل بالمواظبة من غير ترك لذلك ، فالجواب إن أرادوا بظني الدلالة مشتركها سلمنا الأصل المذكور ومنعنا كون الخبرين من ذلك ، بل نفي الكمال فيهما احتمال يقابله الظهور فإن النفي متسلط على الوضوء والصلاة فيهما .

فإن قلنا : النفي لا يتسلط على نفس الجنس بل ينصرف إلى حكمه وجب اعتباره في الحكم الذي هو الصحة فإنه المجاز الأقرب إلى الحقيقة ، وإن قلنا يتسلط هنا ; لأنها حقائق شرعية فينتفي شرعا لعدم الاعتبار شرعا ، وإن وجدت حسا فأظهر في المراد ، فنفي الكمال على كلا الوجهين احتمال هو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل ، وإن أرادوا به ما فيه احتمال ، ولو مرجوحا منعنا صحة الأصل المذكور وأسندناه بأن الظن واجب الاتباع في الأدلة الشرعية الاجتهادية ، وهو متعلق بالاحتمال الراجح فيجب اعتبار متعلقه ، وعلى هذا مشى المصنف رحمه الله في خبر الفاتحة حيث قال بعد ذكره من طرف الشافعي رحمه الله : ولنا قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } والزيادة عليه بخبر الواحد لا تجوز لكنه يوجب العمل فعملنا بوجوبها ، وهذا هو الصواب ، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال .

[ فرع ]

نسي التسمية فذكرها في خلال الوضوء فسمى لا يحصل السنة ، بخلاف نحوه في الأكل .

كذا في الغاية معللا بأن الوضوء عمل واحد بخلاف الأكل ، وهو إنما يستلزم في الأكل تحصيل السنة في الباقي لا استدراك ما فات ( قوله هو الصحيح ) احتراز عما قيل قبله فقط وما قيل بعده فقط ; لأن ما قبله حال الانكشاف ، والأصح قبله أيضا لا حال الانكشاف ، ولا في محل النجاسة ، ومن الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول عند دخول الخلاء { اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث } والمراد الاستعاذة من ذكران الشياطين وإناثهم .




الخدمات العلمية