الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2041 98 - حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بين أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 270 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 270 ] مطابقته للترجمة ظاهرة ورجاله قد ذكروا غير مرة، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث أخرجه بقية الأئمة الستة من طرق، وقد رواه عن أبي هريرة محمد بن زياد ومحمد بن سيرين والأعرج وهمام وأبو صالح وموسى بن يسار وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد ومجاهد والوليد بن رباح.

                                                                                                                                                                                  أما رواية محمد بن زياد فانفرد بها الترمذي فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من اشترى مصراة فهو بالخيار" يعني إذا حلبها إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر، وأخرجه الطحاوي أيضا من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وأما رواية محمد بن سيرين فأخرجها مسلم عن محمد بن عمرو بن جبلة عن أبي عامر العقدي، وأخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من رواية أيوب، عن محمد بن سيرين، وأما رواية الأعرج فأخرجها الشيخان وأبو داود من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، وأما رواية همام فانفرد بها مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، وأما رواية أبي صالح فانفرد بها مسلم أيضا من رواية يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، وأما رواية موسى بن يسار فأخرجها مسلم والنسائي من رواية داود بن قيس عنه، وأما رواية ثابت، وهو ابن عياض، فأخرجها البخاري وأبو داود من رواية زياد بن سعد عنه، وأما رواية مجاهد والوليد بن رباح فذكرهما البخاري تعليقا على ما يأتي.

                                                                                                                                                                                  وأخرج الطحاوي هذا الحديث من ثمان طرق، عن ابن سيرين بطريقين، أحدهما معه خلاس بن عمرو ومحمد بن زياد وموسى بن يسار والأعرج وعكرمة وأبو إسحاق السبيعي وعبد الرحمن بن سعد مع عكرمة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لا تصروا الإبل" بفتح التاء وضم الصاد، وهو نهي للجماعة، و"الإبل" منصوب، ويروى: "لا تصر" بضم التاء وفتح الصاد بصيغة الإفراد على بناء المجهول، والإبل مرفوع به، والغنم عطف على الإبل بالوجهين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فمن ابتاعها" أي: فمن اشترى المصراة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بعد" قال الكرماني: أي: بعد هذا النهي أو بعد صر البائع.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الوجه الثاني هو الأوجه، والأول فيه البعد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإنه" أي: فإن الذي ابتاعها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بخير النظرين" أي: بخير الرأيين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أن يحتلبها" بكسر إن، كذا في الأصل على أنها شرطية، و"يحتلبها" بالجزم لأنه فعل الشرط، وفي رواية ابن خزيمة والإسماعيلي من طريق أسد بن موسى عن الليث: بعد أن يحلبها بفتح أن ونصب "يحلبها" وظاهر الحديث أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار ولو لم يحلب، لكن لما كانت التصرية لا تعرف غالبا إلا بعد الحلب ذكر قيدا في ثبوت الخيار، فلو ظهرت التصرية بعد الحلب فالخيار ثابت.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وإن شاء ردها" وفي رواية مالك "وإن سخطها ردها".

                                                                                                                                                                                  قوله: "وصاع تمر" منصوب بشيء مقدر، والتقدير: ورد معها صاع تمر، قيل: يجوز أن يكون مفعولا معه، وأجيب بأن جمهور النحاة على أن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا نحو جئت أنا وزيدا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) احتج بهذا الحديث ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو سليمان وزفر وأبو يوسف في بعض الروايات فقالوا: من اشترى مصراة فحلبها فلم يرض بها فإنه يردها إن شاء ويرد معها صاعا من تمر، إلا أن مالكا قال: يؤدي أهل كل بلد صاعا من أغلب عيشهم، وابن أبي ليلى قال: يرد معها قيمة صاع من تمر، وهو قول أبي يوسف ولكنه غير مشهور عنه، وقال زفر: يرد معها صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من تمر، وفي شرح الموطأ للأشبيلي قال مالك: إذا احتلبها ثلاثا وسخطها لاختلاف لبنها ردها ومعها صاعا من قوت ذلك البلد تمرا كان أو برا أو غيره، وبه قال الطبري وأبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي، وعن مالك: يرد مكيلة ما حلب من اللبن تمرا أو قيمته، وقال أكثر أصحاب الشافعي: لا يكون إلا من التمر.

                                                                                                                                                                                  وإذا لم يجد المشتري التمر فهل ينتقل إلى غيره؟ حكى الماوردي فيه وجهين أحدهما: يرد قيمته بالمدينة والثاني قيمته بأقرب بلاد التمر إليه، واقتصر الرافعي على نقل الوجه الأول عن الماوردي والوجهان معا في الحاوي، فإن اتفق المتبايعان على غير التمر في رد بدل لبن المصراة فقد حكى الرافعي عن ابن كج وجهين في إجزاء البر عن التمر إذا اتفقا عليه، فكان كالاستبدال عما في ذمته، وقال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف في المشهور عنه ومالك في رواية وأشهب من المالكية وابن أبي ليلى في رواية وطائفة من أهل العراق: ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب ولكنه يرجع بالنقصان؛ لأنه وجد ما يمنع الرد وهو الزيادة المنفصلة عنها، وفي الرجوع بالنقصان روايتان عن أبي حنيفة في رواية شرح الطحاوي: يرجع [ ص: 271 ] على البائع بالنقصان من الثمن لتعذر الرد، وفي رواية الأسرار: لا يرجع; لأن اجتماع اللبن وجمعه لا يكون عيبا.

                                                                                                                                                                                  وأجابوا عن الحديث بأجوبة:

                                                                                                                                                                                  الأول: ما قاله محمد بن شجاع: إن هذا الحديث نسخه حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فلما قطع صلى الله عليه وسلم - بالفرقة الخيار ثبت بذلك أن لا خيار لأحد بعد ذلك إلا لمن استثناه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا، وهو قوله: "إلا بيع الخيار المجهول" ورده الطحاوي بأن الخيار المجهول في المصراة إنما هو خيار عيب وخيار العيب لا تقطعه الفرقة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ما قاله عيسى بن أبان: كان ذلك في أول الإسلام حيث كانت العقوبات في الديون، حتى نسخ الله سبحانه وتعالى الربا فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها.

                                                                                                                                                                                  الثالث: ما قاله ابن التين : ومن جملة ما رووا به حديث المصراة بالاضطراب قال مرة "صاعا من تمر" ومرة "صاعا من طعام" ومرة "مثل أو مثلي لبنها".

                                                                                                                                                                                  الرابع: أن الحديث وإن وقع بنقل العدل الضابط عن مثله إلى قائله لا بد في اعتباره أن يكون غير شاذ ولا معلول، وهذا معلول لأنه يخالف عموم الكتاب والسنة المشهورة، فيتوقف بها عن العمل بظاهره، أما عموم الكتاب فقوله تعالى: فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم وأما الحديث فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الخراج بالضمان " رواه الترمذي من حديث ابن عباس وصححه، ورواه الطحاوي من حديث عائشة، ويروى "الغلة بالضمان" والمراد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدا كان أو أمة أو ملكا، وذلك أن يشتريه فيستعمله زمانا، ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن ويكون للمشتري ما استعمله; لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء.

                                                                                                                                                                                  ثم إن هؤلاء قد زعموا أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها، ثم أصاب عيبا غير التحفيل والتصرية أنه يردها ويكون اللبن له، وكذلك لو اشترى جارية مثلا فولدت عنده، ثم ردها على البائع لعيب وجد بها يكون الولد له، قالوا: لأن ذلك من الخراج الذي جعله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - للمشتري بالضمان، فإذا كان الأمر كذلك فالصاع من التمر الذي يوجبه هؤلاء على مشتري المصراة إذا ردها على بايعها بسبب التصرية والتحفيل لا يخلو إما أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها، كان بعضه في ضرعها وقت وقوع البيع وحدث بعضه في ضرعها بعد البيع، وإما أن يكون عوضا عن اللبن الذي في ضرعها وقت وقوع البيع خاصة، فإن أرادوا الوجه الأول فقد ناقضوا أصلهم الذي جعلوا به اللبن والولد للمشتري بعد الرد بالعيب في الصورتين اللتين ذكرناهما؛ وذلك لأنهم جعلوا حكمهما كحكم الخراج الذي فعله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - للمشتري بالضمان، وإن أرادوا به الوجه الثاني فقد جعلوا للبائع صاعا دينا بدين، وهذا غير جائز لا في قولهم ولا في قول غيرهم، وأي المعنيين أرادوا فهم فيه تاركون أصلا من أصولهم، وقد كان هؤلاء أولى بالقول بنسخ الحكم في المصراة لكونهم يجعلون اللبن في حكم الخراج وغيرهم لا يجعلون كذلك، فظهر من ذلك فساد كلامهم وفساد ما ذهبوا إليه.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): لا نسلم أن يكون اللبن في حكم الخراج; لأن اللبن ليس بغلة، وإنما كان محفلا فيها فيلزم رده .

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا ممنوع; لأن الغلة هي الدخل الذي يحصل، وهي أعم من أن يكون لبنا أو غيره، وأيضا يلزمهم على هذا أن يردوا عوض اللبن إذا ردت المصراة بعيب آخر غير التصرية، ولم يقولوا به.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هذا حكم خاص في نفسه، وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضي على العام.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا زعمك، وإنما الأصل ترجيح العام على الخاص في العمل به، ولهذا رجحنا قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الأرض: "ما أخرجت ففيه العشر" على الخاص الوارد بقوله: "ليس في الخضراوات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وأمثال ذلك كثيرة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية