المسألة الخامسة : في الآية إشكال ، وهو أنه
كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى نصر الله ) ؟
والجواب عنه من وجوه :
أحدها : أن كونه رسولا لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=97ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ) [الحجر : 97] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=3لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [الشعراء : 3] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي ) [يوسف : 110] وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته ، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك ، قال عند ضيق قلبه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى نصر الله ) حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطاب قلبه ، والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعا عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا ؟ لما كان هذا الجواب مطابقا لذلك السؤال ، وهذا هو الجواب المعتمد .
والجواب الثاني : أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولا ، ثم ذكر كلامين :
أحدهما : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى نصر الله ) .
والثاني : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين . فالذين آمنوا قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى نصر الله ) والرسول صلى الله عليه وسلم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) .
قالوا : ولهذا نظير من القرآن والشعر :
أما القرآن فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=73ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) [القصص : 73] والمعنى : لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ، وأما من الشعر فقول
امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس ، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جدا .
المسألة السادسة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) يحتمل أن يكون جوابا من الله تعالى لهم ، إذ قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى )
[ ص: 20 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214نصر الله ) فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى نصر الله ) ثم قال الله عند ذلك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) ويحتمل أن يكون ذلك قولا لقوم منهم ، كأنهم لما قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214متى نصر الله ) رجعوا إلى أنفسهم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم ، فقالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك .
فإن قيل : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214ألا إن نصر الله قريب ) يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابت .
قلنا : لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام ، ويمكن أن يكون ذلك عاما في حق الكل ; إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين : إما أن يتخلص عنه ، وإما أن يموت ، وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريبا لأن الموت قريب .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ
كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْقَاطِعِ بِصِحَّةِ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ كَوْنَهُ رَسُولًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَتَأَذَّى مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=97وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) [الْحِجْرِ : 97] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=3لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [الشُّعَرَاءِ : 3] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ ) [يُوسَفَ : 110] وَعَلَى هَذَا فَإِذَا ضَاقَ قَلْبُهُ وَقَلَّتْ حِيلَتُهُ ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُ إِلَّا أَنَّهُ مَا عَيَّنَ لَهُ الْوَقْتَ فِي ذَلِكَ ، قَالَ عِنْدَ ضِيقِ قَلْبِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) حَتَّى إِنَّهُ إِنْ عَلِمَ قُرْبَ الْوَقْتِ زَالَ هَمُّهُ وَغَمُّهُ وَطَابَ قَلْبُهُ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ الْقُرْبِ دَلَّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنِ الْقُرْبِ ، وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ أَنَّهُ هَلْ يُوجَدُ النَّصْرُ أَمْ لَا ؟ لَمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) .
وَالثَّانِي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فَوَجَبَ إِسْنَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْمَذْكُورِينَ . فَالَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) .
قَالُوا : وَلِهَذَا نَظِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ :
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=73وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) [الْقَصَصِ : 73] وَالْمَعْنَى : لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ ، وَأَمَّا مِنَ الشِّعْرِ فَقَوْلُ
امْرِئِ الْقَيْسِ :
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي
فَالتَّشْبِيهُ بِالْعُنَّابِ لِلرَّطْبِ وَبِالْحَشَفِ الْبَالِي لِلْيَابِسِ ، فَهَذَا جَوَابٌ ذَكَرَهُ قَوْمٌ وَهُوَ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ، إِذْ قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى )
[ ص: 20 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214نَصْرُ اللَّهِ ) فَيَكُونُ كَلَامُهُمْ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْمٍ مِنْهُمْ ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْلِي عَدُوَّهُمْ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فَنَحْنُ قَدْ صَبَرْنَا يَا رَبَّنَا ثِقَةً بِوَعْدِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) يُوجِبُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ لَحِقَهُ شِدَّةٌ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ سَيَظْفَرَ بِزَوَالِهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ .
قُلْنَا : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ الْكُلِّ ; إِذْ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي بَلَاءٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَخَلَّصَ عَنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ ، وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَنْ لَا يُهْمِلُ أَمْرَهُ وَلَا يُضَيِّعُ حَقَّهُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النَّصْرِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَرِيبًا لِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ .