الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          207 - فصل

                          [ بيان بناء بعض المدن الإسلامية ]

                          وأما واسط فبناها الحجاج بن يوسف سنة ست وثمانين من الهجرة ، في السنة التي مات فيها عبد الملك بن مروان .

                          [ ص: 1177 ] وأما بغداد فقال سليمان بن المجالد وزير أبي جعفر : " خرجت مع أبي جعفر يوما قبل أن نبتني مدينة بغداد ، ونحن نرتاد موضعا نبني فيه مدينة يكون فيها عسكره ، قال : فبصرنا بقس شيخ كبير ومعه جماعة من النصارى ، فقال : اذهب إلى هذا القس نسأله ، فمضى إليه فوقف عليه أبو جعفر فسلم عليه ثم قال : يا شيخ أبلغك أنه يبنى هاهنا مدينة ؟ قال : نعم ؛ ولست بصاحبها . قال : وما علمك ؟ قال القس : وما اسمك ؟ قال اسمي عبد الله . قال : فلست بصاحبها . قال : فما اسم صاحبها ؟ قال : مقلاص . قال : فتبسم أبو جعفر وصغى إلي ، فقال : أنا والله مقلاص ، كان أبي يسميني وأنا صغير " مقلاصا " فاختط موضع مدينة أبي جعفر ، وتحول أبو جعفر من الهاشمية إلى بغداد ، وأمر ببنائها ثم رجع إلى الكوفة في سنة أربع وأربعين ومائة ، وفرغ من بنائها ونزلها مع جنده وسماها " مدينة السلام " سنة خمس وأربعين ومائة ، وفرغ من بناء الرصافة سنة أربع وخمسين ومائة .

                          [ ص: 1178 ] وقال سليمان بن مجالد : " الذي تولى الوقوف على خط بغداد الحجاج بن أرطاة وجماعة من أهل الكوفة " .

                          وكذلك " سامرا " بناها المتوكل .

                          وكذلك " المهدية " التي بالمغرب ، وغيرها من الأمصار التي مصرها المسلمون .

                          فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد الإمام أن يقر أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز ، فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمرا أو خنزيرا أو ناقوسا لم يجز ، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسدا ، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع .

                          [ ص: 1179 ] قال الإمام أحمد : حدثنا حماد بن خالد الخياط ، أخبرنا الليث بن سعد ، عن توبة بن النمر الحضرمي - قاضي مصر - عمن أخبره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة " .

                          وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد . . . [ ص: 1180 ] فذكره بإسناده ومتنه .

                          وقد روي موقوفا على عمر بغير هذا الإسناد :

                          قال علي بن عبد العزيز : حدثنا أبو [ عبيد ] القاسم ، حدثني أبو الأسود ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء " .

                          [ ص: 1181 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر بن سليمان التيمي ، عن أبيه ، عن حنش ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا ؟ فقال : " أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه [ بيعة ] ، ولا يضربوا فيه ناقوسا ، ولا يشربوا فيه خمرا ، ولا يتخذوا فيه خنزيرا ، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله عز وجل على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم ، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم " .

                          [ ص: 1182 ] قال عبد الله بن أحمد : وسمعت أبي يقول : " ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا في مكان لهم صالح ، وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين " .

                          وقال المروذي : قال لي أبو عبد الله : سألوني عن الديارات في المسائل التي وردت من قبل الخليفة ، فقلت : أي شيء تذهب أنت ؟

                          فقال : " ما كان من صلح يقر ، وما كان أحدث بعد يهدم " .

                          وقال أبو طالب : سألت أبا عبد الله عن بيع النصارى ما كان في السواد ، وهل أقرها عمر ؟

                          فقال : " السواد فتح بالسيف ، فلا يكون فيه بيعة ولا يضرب فيه ناقوس ولا يتخذ فيه الخنازير ولا يشرب الخمر ولا يرفعون أصواتهم في دورهم ، إلا الحيرة وبانقيا ودير صلوبا ، فهؤلاء أهل صلح صولحوا ولم يحاربوا ، فما كان منها لم يخرب ، وما كان غير ذلك فكله محدث يهدم ، وقد كان أمر بهدمها هارون .

                          وكل مصر مصرته العرب فليس لهم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا [ ص: 1183 ] فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا .

                          وما كان من صلح صولحوا عليه فهو على صلحهم وعهدهم ، وكل شيء فتح عنوة فلا يحدثوا فيه شيئا من هذا .

                          وما كان من صلح أقروا على صلحهم " . واحتج فيه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما .

                          وقال أبو الحارث : سئل أبو عبد الله عن البيع والكنائس التي بناها أهل الذمة ، وما أحدثوا فيها مما لم يكن ؟ قال : تهدم ، وليس لهم أن يحدثوا شيئا من ذلك فيما مصره المسلمون ، يمنعون من ذلك إلا مما صولحوا عليه .

                          [ ص: 1184 ] قيل لأبي عبد الله : أيش الحجة في أن يمنع أهل الذمة أن يبنوا بيعة أو كنيسة إذا كانت الأرض ملكهم ، وهم يؤدون الجزية ، وقد منعنا من ظلمهم وأذاهم ؟ قال : حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أيما مصر مصرته العرب " .

                          وقال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني [ عمي ] قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة - يعني ابن محمد - أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين . قال : وشهدت عروة بن محمد يهدمها بصنعاء .

                          [ ص: 1185 ] قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول : " إن من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة " . ذكره أحمد عن عبد الرزاق .

                          وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده ، فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر ، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير ، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق ، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق ، فكيف إحداث موضع الكفر والشرك ؟ ! .

                          فإن قيل : فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون ؟ قيل : هي على نوعين :

                          أحدهما : أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر فهذه تزال اتفاقا .

                          الثاني : أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ، ثم يمصر المسلمون حولها المصر ، فهذه لا تزال ، والله أعلم .

                          وورد على شيخنا استفتاء في أمر الكنائس صورته : ما يقول السادة [ ص: 1186 ] العلماء - وفقهم الله - في إقليم توافق أهل الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان ، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك ؟ وهل يكون الملك شاملا لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك ؟ أو يختص الملك بما عدا متعبدات أهل الشرك ؟ فإن ملك جميع ما فيه فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى واليهود - بذلك الإقليم أو غيره - الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبدا لهم ، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا ؟ فإن لم يجز - لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه - فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا ؟ وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها فهل يملك من عقدت له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها ، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا ؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع ، وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك وانتقض عهدهم بسبب يقتضي انتقاضه إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا ، أو أعقبوا ، فإن قلنا : إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة - كما نص عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصباغ وصححه العراقيون واختاره ابن أبي عصرون في " المرشد " - فهل لإمام الوقت أن يقول : لا أعقد لكم الذمة [ ص: 1187 ] إلا بشرط ألا تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد ، فتكون كالأموال التي جهل مستحقوها وأيس من معرفتها ، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة ؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين ، ولا يجب عليه ذلك عند التردد في أن ذلك كان موجودا عند الفتح ، أو حدث بعد الفتح ، أو يجب عليه مطلقا فيما تحقق أنه كان موجودا قبل الفتح ، أو شك فيه ؟ وإذا لم يجب في حالة الشك ، فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح وجهل الحال فيمن أحدثه لمن هو ؟ لبيت المال أم لا ؟ وإذا قلنا : إن من بلغ من أولاد من عقدت معهم الذمة - وإن سلفوا - ومن غيرهم لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة ، بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقق أنه من أولادهم ، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم أم يحتاج إلى تجديد عقد وذمة ؟ وإذا قلنا : إنهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ فهل تحتاج كنائسهم وبيعهم إليه أم لا ؟

                          فأجاب : " الحمد لله ، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكعامة أرض الشام وبعض مدنها وكسواد العراق - إلا مواضع قليلة فتحت صلحا - وكأرض مصر ، فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

                          [ ص: 1188 ] وقد روي في أرض مصر أنها فتحت صلحا ، وروي أنها فتحت عنوة ، وكلا الأمرين صحيح - على ما ذكره العلماء المتأهلون للروايات الصحيحة في هذا الباب - فإنها فتحت أولا صلحا ثم نقض أهلها العهد ، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمده ، فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام ، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة .

                          ولهذا روي من وجوه كثيرة أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام ، فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئا للمسلمين ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم ، ثم وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفه ، ومات بعضهم فاستقر الأمر على ذلك ، فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه كما ملكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار .

                          ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض ، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد ، وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن ملك المسلمين ، فإن ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلا أو [ ص: 1189 ] محدثا لم يشرعه الله قط ، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعه .

                          وقد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا ، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه ، ( ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )

                          ولهذا لما استولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قينقاع والنضير وقريظة كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون ، ودخلت في قوله سبحانه : ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ) وفي قوله تعالى : ( [ و ] وما أفاء الله على رسوله منهم ) ، و ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) لكن - وإن ملك المسلمون ذلك - فحكم الملك متبوع كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبر وأم الولد والعبد ، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يؤسرون ، وفي النساء والصبيان الذين يسبون ، كذلك يختلف حكمه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول .

                          وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة .

                          [ ص: 1190 ] ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم ، وكانت المزارع ملكا للمسلمين عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته ، واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية