الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها العوض لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { الواهب أحق بهبته [ ص: 130 ] ما لم يثب منها } أي ما لم يعوض ولأن التعويض دليل على أن مقصود الواهب هو الوصول إلى العوض فإذا وصل فقد حصل مقصوده فيمنع الرجوع وسواء قل العوض أو كثر لما روينا من الحديث من غير فصل فنقول العوض نوعان متأخر عن العقد ومشروط في العقد .

                                                                                                                                أما العوض المتأخر عن العقد فالكلام فيه يقع في موضعين أحدهما في بيان شرط جواز هذا التعويض وصيرورة الثاني عوضا والثاني في بيان ماهية هذا التعويض أما الأول فله شرائط ثلاثة الأول مقابلة العوض بالهبة وهو أن يكون التعويض بلفظ يدل على المقابلة نحو أن يقول هذا عوض من هبتك أو بدل عن هبتك أو مكان هبتك أو نحلتك هذا عن هبتك أو تصدقت بهذا بدلا عن هبتك أو كافأتك أو جازيتك أو أتيتك وما يجري هذا المجرى لأن العوض اسم لما يقابل المعوض فلا بد من لفظ يدل على المقابلة .

                                                                                                                                حتى لو وهب لإنسان شيئا وقبضه الموهوب له ثم إن الموهوب له أيضا وهب شيئا للواهب ولم يقل هذا عوض من هبتك ونحو ذلك مما ذكرنا لم يكن عوضا بل كان هبة مبتدأة ولكل واحد منهما حق الرجوع لأنه لم يجعل الباقي مقابلا بالأول لانعدام ما يدل على المقابلة فكانت هبة مبتدأة فيثبت فيها الرجوع والثاني لا يكون العوض في العقد مملوكا بذلك العقد حتى لو عوض الموهوب له الواهب بالموهوب لا يصح ولا يكون عوضا وإن عوضه ببعض الموهوب عن باقيه فإن كان الموهوب على حاله التي وقع عليها العقد لم يكن عوضا لأن التعويض ببعض الموهوب لا يكون مقصود الواهب عادة إذ لو كان مقصوده لأمسكه ولم يهبه فلم يحصل مقصوده بتعويض بعض ما دخل تحت العقد فلا يبطل حق الرجوع ، وإن كان الموهوب قد تغير عن حاله تغيرا يمنع الرجوع فإن بعض الموهوب يكون عوضا عن الباقي لأنه بالتغير صار بمنزلة عين أخرى فصلح عوضا ، هذا إذا وهب شيئا واحدا أو شيئين في عقد واحد فأماإذا وهب شيئين في عقدين فعوض أحدهما عن الآخر فقد اختلف فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة عوضا وقال أبو يوسف لا يكون عوضا .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي يوسف إن حق الرجوع ثابت في غير ما عوض لأنه موهوب وحق الرجوع في الهبة ثابت شرعا فإذا عوض يقع عن الحق المستحق شرعا فلا يقع موقع العوض بخلاف ما إذا تغير الموهوب فجعل بعضه عوضا عن الباقي أنه يجوز وكان ملكا عوضا لأن حق الرجوع قد بطل بالتغير فجاز أن يقع موقع العوض .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما إنهما ملكا بعقدين متباينين فجاز أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر وهذا لأنه يجوز أن يكون مقصود الواهب من هبته الثانية عود الهبة الأولى لأن الإنسان قد يهب شيئا ثم يبدو له الرجوع فصار الموهوب بأحد العقدين بمنزلة عين أخرى بخلاف ما إذا عوض بعض الموهوب عن الباقي وهو على حاله التي وقع عليها العقد لأن بعض الموهوب لا يكون مقصود الواهب فإن الإنسان لا يهب شيئا ليسلم له بعضه عوضا عن باقيه وقوله حق الرجوع ثابت شرعا نعم لكن الرجوع في الهبة ليس بواجب فلا يمتنع وقوعه عن جهة أخرى كما لو باعه منه ولو وهب له شيئا وتصدق عليه بشيء فعوضه الصدقة من الهبة كانت عوضا بالإجماع على اختلاف الأصلين .

                                                                                                                                ( أما ) على أصل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلا يشكل لأنهما لو ملكا بعقدين متفقين لجاز أن يكون أحدهما عوضا عن الآخر فعند اختلاف العقدين أولى .

                                                                                                                                ( وأما ) على أصل أبي يوسف رحمه الله فلأن الصدقة لا يثبت فيها حق الرجوع فوقعت موقع العوض ، والثالث سلامة العوض للواهب فإن لم يسلم بأن استحق من يده لم يكن عوضا وله أن يرجع في الهبة لأن بالاستحقاق تبين أن التعويض لم يصح فكأنه لم يعوض أصلا فله أن يرجع إن كان الموهوب قائما بعينه لم يهلك ولم يزدد خيرا ولم يحدث فيه ما يمنع الرجوع فإن كان قد هلك أو استهلكه الموهوب له لم يضمنه كما لو هلك أو استهلكه قبل التعويض وكذا إذا ازداد خيرا لم يضمن كما قبل التعويض وإن استحق بعض العوض وبقي البعض فالباقي عوض عن كل الموهوب وإن شاء رد ما بقي من العوض ويرجع في كل الموهوب إن كان قائما في يده ولم يحدث فيه ما يمنع الرجوع وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر يرجع في الهبة بقدر المستحق من العوض .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله إن معنى المعاوضة ثبت من الجانبين جميعا فكما أن الثاني عوض عن الأول فالأول يصير عوضا عن الثاني ثم لو استحق بعض الهبة الأولى كان للموهوب له أن [ ص: 131 ] يرجع في بعض العوض فكذا إذا استحق بعض العوض كان للواهب أن يرجع في بعض الهبة تحقيقا للمعاوضة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الباقي يصلح عوضا عن كل الهبة ألا ترى أنه لو لم يعوضه إلا به في الابتداء كان عوضا مانعا عن الرجوع فكذا في الانتهاء بل أولى لأن البقاء أسهل إلا أن للواهب أن يرده ويرجع في الهبة لأن الموهوب له غره حيث عوضه لإسقاط الرجوع بشيء لم يسلم له فيثبت له الخيار .

                                                                                                                                ( وأما ) سلامة المعوض وهو الموهوب للموهوب له فشرطه لزوم التعويض حتى لو استحق الموهوب كان له أن يرجع فيما عوض لأنه إنما عوض ليسقط حق الرجوع في الهبة فإذا استحق الموهوب تبين أن حق الرجوع لم يكن ثابتا فصار كمن صالح عن دين ثم تبين أنه لا دين عليه وكذلك لو استحق نصف الموهوب فللموهوب له أن يرجع في نصف العوض إن كان الموهوب مما يحتمل القسمة لأنه إنما جعل عوضا عن حق الرجوع في جميع الهبة فإذا لم يسلم له بعضه يرجع في العوض بقدره سواء زاد العوض أو نقص في السعر أو زاد في البدن أو نقص في البدن كان له أن يأخذ نصفه ونصف النقصان كذا روي عن محمد في الإملاء وإنما لم تمنع الزيادة عن الرجوع في العوض لأنه تبين له أنه قبضه بغير حق فصار كالمقبوض بعقد فاسد فيثبت الفسخ في الزوائد .

                                                                                                                                وإن قال الموهوب له أرد ما بقي من الهبة وأرجع في العوض كله لم يكن له ذلك لأن العوض لم يكن مشروطا في العقد بل هو متأخر عنه والعوض المتأخر ليس بعوض عن العين حقيقة بل هو لإسقاط الرجوع وقد حصل له سقوط الرجوع فيما بقي من الهبة فلم يكن له أن يرجع في العوض فإن كان العوض مستهلكا ضمن قابض العوض بقدر ما وجب الرجوع للموهوب له فيه من العوض وإن استحق كل الهبة ، والعوض مستهلك يضمن كل قيمة العوض كذا ذكر في الأصل من غير خلاف وهو إحدى روايتي بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله وروى بشر رواية أخرى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يضمن شيئا وهو قول أبي يوسف .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية الأصل أن القبض في العوض ما وقع مجانا وإنما وقع مبطلا حق الرجوع في الأول فإن لم يسلم المقصود منه بقي القبض مضمونا فكما يرجع بعينه لو كان قائما يرجع بقيمته إذا هلك .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية الأخرى أن العوض المتأخر عن العقد في حكم الهبة المبتدأة حتى يشترط فيه شرائط الهبة من القبض والحيازة ، والموهوب غير مضمون بالهلاك هذا إذا كان الموهوب أو العوض شيئا لا يحتمل القسمة فاستحق بعضه .

                                                                                                                                ( فأما ) إذا كان مما يحتمل القسمة فاستحق بعض أحدهما بطل العوض إن كان هو المستحق وكذا تبطل الهبة إن كانت هي المستحقة فإذا بطل العوض رجع في الهبة وإذا بطلت الهبة يرجع في العوض لأن بالاستحقاق تبين أن الهبة والتعويض وقع في مشاع يحتمل القسمة وذلك باطل الثاني : بيان ماهيته فالتعويض المتأخر عن الهبة هبة مبتدأة بلا خلاف من أصحابنا يصح بما تصح به الهبة ويبطل بما تبطل به الهبة لا يخالفها إلا في إسقاط الرجوع ، على معنى أنه يثبت حق الرجوع في الأولى ولا يثبت في الثانية .

                                                                                                                                ( فأما ) فيما وراء ذلك فهو في حكم هبة مبتدأة لأنه تبرع بتمليك العين للحال وهذا معنى الهبة إلا أنه تبرع به ليسقط حق الرجوع عن نفسه في الهبة الأولى فكانت هبة مبتدأة مسقطة لحق الرجوع في الهبة الأولى ولو وجد الموهوب له بالموهوب عيبا فاحشا لم يكن له أن يرده ويرجع في العوض وكذلك الواهب إذا وجد بالعوض عيبا لم يكن له أن يرد العوض ويرجع في الهبة لأن الرد بالعيب من خواص المعاوضات والعوض إذا لم يكن مشروطا في العقد لم يكن عوضا على الحقيقة بل كان هبة مبتدأة ولا يظهر معنى العوض فيه إلا في إسقاط الرجوع خاصة فإذا قبض الواهب العوض فليس لكل واحد منهما أن يرجع على صاحبه فيما ملكه .

                                                                                                                                ( أما ) الواهب فلأنه قد سلم له العوض عن الهبة وإنه يمنع الرجوع .

                                                                                                                                ( وأما ) الموهوب له فلأنه قد سلم له ما هو في معنى العوض في حقه وهو سقوط حق الرجوع فيمنعه من الرجوع لقوله عليه الصلاة والسلام { الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها } وسواء عوضه الموهوب له أو أجنبي بأمر الموهوب له أو بغير أمره لم يكن للواهب أن يرجع في هبته ولا للمعوض أن يرجع في العوض على الواهب ولا على الموهوب له .

                                                                                                                                ( أما ) الواهب فإنما لم يرجع في هبته لأن الأجنبي إنما عوض بأمر الموهوب له قام تعويضه مقام تعويضه بنفسه ولو عوض بنفسه [ ص: 132 ] لم يرجع فكذا إذا عوض الأجنبي بأمره وإن عوض بغير أمره فقد تبرع بإسقاط الحق عنه والتبرع بإسقاط الحق عن الغير جائز كما لو تبرع بمخالعة امرأة من زوجها .

                                                                                                                                ( وأما ) المعوض فإنه لا يرجع على الواهب لأن مقصوده من التعويض سلامة الموهوب للموهوب له وإسقاط حق التبرع وقد سلم له ذلك وإنما لم يرجع على الموهوب له .

                                                                                                                                ( أما ) إذا كان بغير أمره فلأنه تبرع بإسقاط الحق عنه فلا يملك أن يجعل ذلك مضمونا عليه .

                                                                                                                                ( وأما ) إذا عوض بأمره لا يرجع عليه أيضا إلا إذا قال له عوض عني على أني ضامن لأنه إذا أمره بالتعويض ولم يضمن له فقد أمره بما ليس بواجب عليه بل هو متبرع به فلم يوجب ذلك الضمان على الآمر إلا بشرط الضمان وعلى هذا قالوا فيمن قال لغيره أطعم عن كفارة يميني أو أد زكاتي ففعل لا يرجع بذلك على الآمر إلا أن يقول له على أني ضامن لأنه أمره بما ليس بمضمون عليه بخلاف ما إذا أمره غيره بقضاء الدين فقضاه أنه يرجع على الآمر وإن لم يقل على ياسر أني ضامن نصا لأن قضاء الدين مضمون على الآمر فإذا أمره به فقد ضمن له ولو عوض الموهوب له الواهب عن نصف الهبة كان عوضا عن نصفها وكان للواهب أن يرجع في النصف الآخر ولا يرجع فيما عوض عنه لأن حق الرجوع في الهبة مما يتجزأ ألا ترى أنه لو رجع في نصف الهبة ابتداء دون النصف جاز فجاز أن يثبت حق الرجوع في النصف بدون النصف بخلاف العفو عن القصاص والطلاق لأن ذلك مما لا يتجزأ فكان إسقاط الحق عن البعض إسقاطا عن الكل .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية