الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الحكم الثالث : وهو وجوب تسليم المرهون عند الافتكاك ، فيتعلق به معرفة وقت وجوب التسليم فنقول : وقت وجوب التسليم ما بعد قضاء الدين ، يقضي الدين أولا ثم يسلم الرهن ; لأن الرهن وثيقة ، وفي تقديم تسليمه إبطال الوثيقة ; ولأنه لو سلم الرهن أولا فمن الجائز أن يموت الراهن قبل قضاء الدين ; فيصير المرتهن كواحد من الغرماء فيبطل حقه ، فلزم تقديم قضاء الدين على تسليم الرهن ، إلا أن المرتهن إذا طلب الدين ، يؤمر بإحضار الرهن أولا ويقال له : أحضر الرهن ; إذا كان قادرا على الإحضار من غير ضرر زائد ، ثم يخاطب الراهن بقضاء الدين ; لأنه لو خوطب بقضائه من غير إحضار الرهن ومن الجائز أن الرهن قد هلك وصار المرتهن مستوفيا دينه من الرهن فيؤدي إلى الاستيفاء مرتين ، وكذلك المشتري يؤمر بتسليم الثمن أولا ; إذا كان دينا ، ثم يؤمر البائع بتسليم المبيع ; لما ذكرنا في كتاب البيوع ، إلا أن البائع إذا طالبه بتسليم الثمن ، يقال له : أحضر المبيع ; لجواز أن المبيع قد هلك ، وسواء كان عين الرهن قائما في يد المرتهن ، أو كان في يده بدله بعد أن كان البدل من خلاف جنس الدين ، نحو ما إذا كان المرتهن مسلطا على بيع الرهن فباعه بخلاف جنس الدين أو قتل الرهن خطأ ، وقضي بالدية من خلاف جنس الدين ، فطالبه المرتهن بدينه كان للراهن أن لا يدفع حتى يحضره المرتهن ; لأن البدل قائم مقام المبدل فكان المبدل قائما .

                                                                                                                                ولو كان قائما ، كان له أن يمنع ما لم يحضره المرتهن فكذلك إذا قام البدل مقامه .

                                                                                                                                ولو كان الرهن على يدي عدل وجعلا للعدل أن يضعه عند من أحب وقد وضعه عند رجل ، فطلب المرتهن دينه يجبر الراهن على قضاء الدين ولا يكلف المرتهن بإحضار الرهن ; لأن قضاء الدين واجب على الراهن على سبيل التضييق ، إلا أنه رخص له التأخير إلى غاية إحضار الدين عند القدرة على الإحضار ، وهنا لا قدرة للمرتهن على إحضاره ; لأن للعدل أن يمنعه عنه .

                                                                                                                                ولو أخذ من يده جبرا ، كان غاصبا [ ص: 154 ] وإلى هذا المعنى أشار محمد في الكتاب فقال : كيف يؤمر بإحضار شيء لو أخذه كان غاصبا ؟ وإذا سقط التكليف بالإحضار ، زالت الرخصة فيخاطب بقضاء الدين ، وكذلك إذا وضعا الرهن على يد عدل ، فغاب العدل بالرهن ولا يدرى أين هو ، لا يكلف المرتهن بإحضار الرهن ، ويجبر الراهن على قضاء الدين لما ذكرنا .

                                                                                                                                ولو كان الرهن في يد المرتهن فالتقيا في بلد آخر ، فطالب المرتهن الراهن بقضاء دينه ، فإن كان الدين مما له حمل ومؤنة ، يجبر الراهن على قضاء الدين ، ولا يجبر المرتهن على إحضار الرهن ; لما ذكرنا أن قضاء الدين واجب عليه على سبيل التضييق والتأخير إلى وقت الإحضار للضرورة التي ذكرناها عند القدرة على الإحضار من غير ضرر زائد ، والمرتهن هنا لا يقدر على الإحضار إلا بالمسافرة بالرهن ، أو بنقله من مكان العقد وفيه ضرر بالمرتهن فسقط التكليف بالإحضار .

                                                                                                                                ولو ادعى الراهن هلاك الرهن فقال المرتهن : لم يهلك فالقول قول المرتهن مع يمينه ; لأن الرهن كان قائما ، والأصل في الثابت بقاؤه ، فالمرتهن يستصحب حالة القيام ، والراهن يدعي زوال تلك الحالة ، والقول قول من يدعي الأصل ; لأن الظاهر شاهد له ; ولأن الراهن بدعوى الهلاك يدعي على المرتهن استيفاء الدين ، وهو منكر ; فكان القول قوله مع يمينه ، ويحلف على البتات ; لأنه يحلف على فعل نفسه وهو القبض السابق ; لأن المرتهن لا يصير مستوفيا بالهلاك ; لأنه لا صنع له فيه بل بالقبض السابق وذلك فعله ، بخلاف ما إذا كان الرهن عند عدل فغاب بالرهن ; فاختلف الراهن والمرتهن في هلاك الرهن أن هناك يحلف المرتهن على العلم لا على البتات ; لأن ذلك تحليف على فعل غيره وهو قبض العدل فتعذر التحليف على البتات فيحلف على العلم ، كما لو ادعى الراهن أنه أوفى الدين وكيل المرتهن ، والمرتهن ينكر ، أنه يحلف على العلم ; لما ذكرنا كذا هذا ، وإن كان الرهن مما لا حمل له ولا مؤنة ، فالقياس أنه يجبر على قضاء الدين ، وفي الاستحسان لا يجبر ما لم يحضر المرتهن الرهن ; لأنه ليس في إحضاره ضرر زائد وعلى هذا الأصل مسائل في الزيادات .

                                                                                                                                ولو اشترى شيئا ولم يقبضه ولم يسلم الثمن حتى لقيه البائع في غير مصره الذي وقع البيع فيه ، فطالبه بالثمن وأبى المشتري حتى يحضر المبيع لا يجبر المشتري على تسليم الثمن حتى يحضر البائع المبيع ، سواء كان له حمل ومؤنة أو لم يكن ، فرق بين البيع والرهن ووجه الفرق أن البيع معاوضة مطلقة ، والمساواة في المعاوضات المطلقة مطلوبة عادة وشريعة ، ولا تتحقق المساواة من غير إحضار المبيع بخلاف الرهن ; لأنه ليس بمعاوضة مطلقة وإن كان فيه معنى المعاوضة ، فلا يلزم اعتبار المساواة بين المرهون والمرهون به وهو الدين في هذا الحكم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية