الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) أما المسح على الخفين فالكلام فيه في مواضع : في بيان جوازه ، وفي بيان مدته ، وفي بيان شرائط جوازه ، وفي بيان مقداره ، وفي بيان ما ينقضه ، وفي بيان حكمه إذا انتقض .

                                                                                                                                ( أما ) الأول : فالمسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء ، وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا شيئا قليلا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لا يجوز ، وهو قول الرافضة وقال مالك : يجوز للمسافر ، ولا يجوز للمقيم ، واحتج من أنكر المسح بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } فقراءة النصب تقتضي وجوب غسل الرجلين مطلقا عن الأحوال ; لأنه جعل الأرجل معطوفة على الوجه واليدين ، وهي مغسولة ، فكذا الأرجل ، وقراءة الخفض تقتضي وجوب المسح على الرجلين لا على الخفين .

                                                                                                                                وروي أنه سئل ابن عباس : هل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين ؟ فقال : { والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين بعد نزول المائدة } ، ولأن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحب إلي من أن أمسح على الخفين رواية قال : لأن أمسح على جلد حمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها } ، وهذا حديث مشهور رواه جماعة من الصحابة مثل عمر ، وعلي ، ، وخزيمة بن ثابت ، وأبي سعيد الخدري ، وصفوان بن عسال ، وعوف بن مالك ، وأبي عمارة ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم حتى قال أبو يوسف : خبر مسح الخفين يجوز نسخ القرآن بمثله .

                                                                                                                                وروي أنه قال : إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين ، وكذا الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على جواز المسح قولا ، وفعلا ، حتى روي عن الحسن البصري أنه قال : أدركت سبعين بدريا من الصحابة كلهم كانوا يرون المسح على الخفين ، ولهذا رآه أبو حنيفة من شرائط السنة والجماعة ، فقال فيها : أن تفضل الشيخين ، وتحب الختنين ، وأن ترى المسح على الخفين ، وأن لا تحرم نبيذ التمر ; يعني : المثلث .

                                                                                                                                وروي عنه أنه قال : ما قلت : بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار فكان الجحود ردا على كبار الصحابة ، ونسبة إياهم إلى الخطأ ، فكان بدعة ، فلهذا قال الكرخي : أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال : لولا أن المسح لا خلف فيه ما مسحنا ودل قوله هذا على أن خلاف ابن عباس لا يكاد يصح ; ولأن الأمة لم تختلف على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ، وإنما اختلفوا أنه مسح قبل نزول المائدة ، أو بعدها ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، حتى قال الحسن البصري : حدثني سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنهم رأوه يمسح على الخفين } .

                                                                                                                                وروي عن عائشة ، والبراء بن عازب رضي الله عنهما أن { النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 8 ] مسح بعد المائدة } .

                                                                                                                                وروي عن جرير بن عبد الله البجلي أنه توضأ ، ومسح على الخفين فقيل : له في ذلك ، فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، و مسح على الخفين فقيل له : أكان ذلك بعد نزول المائدة ؟ فقال : وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة ؟ وأما الآية فقد قرئت بقراءتين فنعمل بهما في حالين ، فنقول وظيفتهما الغسل إذا كانتا باديتين ، والمسح إذا كانتا مستورتين بالخف ، عملا بالقراءتين بقدر الإمكان ويجوز أن يقال لمن مسح على خفه إنه مسح على رجله ، كما يجوز أن يقال : ضرب على رجله ، وإن ضرب على خفه ، والرواية عن ابن عباس لم تصح لما روينا عن أبي حنيفة ولأن مداره على عكرمة .

                                                                                                                                وروي أنه لما بلغت روايته عطاء قال كذب عكرمة وروى عنه عطاء ، والضحاك أنه مسح على خفيه ، فهذا يدل على أن خلاف ابن عباس لم يثبت .

                                                                                                                                وروي عن عطاء أنه قال : كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين فلم يمت حتى تابعهم .

                                                                                                                                وأما الكلام مع مالك ، فوجه قوله أن المسح شرع ترفها ، ودفعا للمشقة ، فيختص شرعيته بمكان المشقة ، وهو السفر .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روينا من الحديث المشهور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : { يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها } ، وما ذكر من الاعتبار غير سديد ، لأن المقيم يحتاج إلى الترفه ، ودفع المشقة ، إلا إن حاجة المسافر إلى ذلك أشد ، فزيدت مدته لزيادة الترفيه ، والله الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية