الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر حال قاضي جبلة

هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة ، وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين ، ويقضي بينهم ، فلما ضعف أمر الروم ، وملكها المسلمون ، وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار ، صاحب طرابلس كان منصور على عادته في الحكم فيها . فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه ، وأحب الجندية ، واختار الجند ، فظهرت شهامته ، فأراد ابن عمار أن يقبض عليه ، فاستشعر منه ، وعصى عليه ، وأقام الخطبة العباسية ، فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالا ليقصده ويحصره ، ففعل ، وحصره ، فلم يظفر منه بشيء ، وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها .

[ ص: 447 ] وبقي أبو محمد بها مطاعا إلى أن جاء الفرنج ، لعنهم الله ، فحصروها ، فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام ، وشاع هذا ، فرحل الفرنج ، فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره ، فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم ، فرحلوا ثانيا ، ثم عادوا ، فقرر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج ، ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد ، فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم ، فتقدموا إلى ذلك البرج فلم يزالوا يرقون في الجبال ، واحدا بعد واحد ، وكلما صار عند ابن صليحة ، وهو على السور ، رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين ، فلما أصبحوا رمى الرءوس إليهم فرحلوا عنه .

وحصروه مرة أخرى ، ونصبوا على البلد برج خشب ، وهدموا برجا من أبراجه ، وأصبحوا وقد بناه أبو محمد ، ثم نقب في السور نقوبا ، وخرج من الباب وقاتلهم ، فانهزم منهم ، وتبعوه ، فخرج أصحابه من تلك النقوب ، فأتوا الفرنج من ظهورهم ، فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل ، فافتدى نفسه بمال جزيل .

ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه ، وليس له من يمنعهم عنه ، فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة ، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله ، فأجابه إلى ما التمس ، وسير إليه ولده تاج الملوك بوري ، فسلم إليه البلد ، ورحل إلى دمشق ، وسأله أن يسيره إلى بغداذ ، ففعل ، وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار .

ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق ، وقال : سلم إلي ابن صليحة عريانا ، وخذ ماله أجمع ، وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار ، فلم يفعل . فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أياما ، ثم سار إلى بغداذ ، وبها السلطان بركيارق ، فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده ، وقال له السلطان محتاج ، والعساكر [ ص: 448 ] يطالبونه بما ليس عنده ، ونريد منك ثلاثين ألف دينار ، وتكون له منة عظيمة ، تستحق بها المكافأة والشكر . فقال : السمع والطاعة ، ولم يطلب أن يحط شيئا ، وقال : إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها ، فأرسل الوزير إليها جماعة ، فوجدوا فيها مالا كثيرا ، وأعلاقا نفيسة ، فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة ، ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير .

كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى هاهنا ، بعد قتل الباطنية ، فإنها كانت أواخر السنة ، وكان قتلهم في شعبان ، وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضا لا يفصل بينها شيء .

وأما تاج الملوك بوري ، فإنه لما ملك جبلة ، وتمكن منها ، أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها ، وفعلوا بهم أفعالا أنكروها ، فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار ، صاحب طرابلس ، وشكوا إليه ما يفعل بهم ، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد ، ففعل ذلك ، وسير إليهم عسكرا ، فدخلوا جبلة ، واجتمعوا بأهلها ، وقاتلوا تاج الملوك ومن معه ، فانهزم الأتراك ، وملك عسكر ابن عمار جبلة ، وأخذوا تاج الملوك أسيرا ، وحملوه إلى طرابلس ، فأكرمه ابن عمار ، وأحسن إليه ، وسيره إلى أبيه بدمشق ، واعتذر إليه ، وعرفه صورة الحال ، وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية