الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر محاربة الأمراء المقدم ذكرهم وقتل محمد بن موسى بن طلحة

فلما هزم أصحاب زحر قال أصحاب شبيب لشبيب : قد هزمنا لهم جندا ، انصرف بنا الآن وافرين . فقال لهم : هذه الهزيمة قد أرعبت هؤلاء الأمراء والجنود الذين في طلبكم ، فاقصدوا بنا نحوهم ، فوالله لئن قاتلناهم فما دون الحجاج مانع ، ونأخذ الكوفة إن شاء الله - تعالى - . فقالوا : نحن لرأيك تبع .

فسار وسأل عن الأمراء فأخبر أنهم بروذبار على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة ، فقصدهم ، فأرسل إليهم الحجاج يعلمهم بمسيره ويقول لهم : إن أمير الجماعة زائدة بن قدامة .

وانتهى إليهم شبيب وقد تعبؤوا للحرب ، فكان على ميمنة أهل الكوفة زياد بن عمرو العتكي ، وفي ميسرتهم بشر بن غالب الأسدي ، وكل أمير واقف في أصحابه ، وأقبل [ ص: 448 ] شبيب على فرس كميت أغر في ثلاث كتائب ، كتيبة فيها سويد بن سليم ، فوقف بإزاء الميمنة ، وكتيبة فيها مصاد ، أخو شبيب ، فوقف بإزاء الميسرة ، ووقف شبيب مقابل القلب .

فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس ، ويحثهم على الجهاد لعدوهم والقتال ، ويطمعهم في عدوهم لقلته وباطله ، وكثرتهم وأنهم على الحق ، ثم انصرف إلى موقفه ، فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو ، فانكشفوا ، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه ، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا ، ثم حمل عليهم ثانية ، فتطاعنوا ساعة ، وصبر زياد ساعة ، وقاتل زياد قتالا شديدا ، وقاتل سويد أيضا قتالا شديدا ، وإنه لأشجع العرب ، ثم ارتفع سويد عنهم ، وإذا أصحاب زياد يتفرقون ، فقال لسويد أصحابه : ألا تراهم يتفرقون ؟ احمل عليهم . فقال لهم شبيب : خلوهم حتى يخفوا . فتركهم قليلا ثم حمل الثالثة فانهزموا ، وأخذت زياد بن عمرو السيوف من كل جانب ، فما ضره منها شيء للبسة التي عليه ، ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة ، وذلك عند المساء .

ثم حملوا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزموه ، ولم يقاتل كثيرا ، ولحق بزياد بن عمرو ، فمضيا منهزمين ، وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب ، فقاتلوه قتالا شديدا وصبر لهم ، ثم إن مصادا أخا شبيب حمل على بشر بن غالب وهو في ميسرة أهل الكوفة ، فصبر بشر ونزل ، ونزل معه نحو خمسين رجلا ، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وانهزم أصحابه .

وحملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم ، وهو يلي بشر بن غالب ، فهزموه ، حتى انتهى إلى موقف أعين فهزموهما ، حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة ، فلما انتهوا إليه نادى : يا أهل الإسلام ! الأرض الأرض ، لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم . فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر .

ثم إن شبيبا حمل عليه في جماعة من أصحابه ، فقتله وقتل أصحابه ، وتركهم ربضة حوله .

ولما قتل زائدة دخل أبو الضريس وأعين جوسقا عظيما ، وقال شبيب لأصحابه : ارفعوا السيف [ عن الناس ] وادعوهم إلى البيعة . فدعوهم إلى البيعة عند الفجر فبايعوه . وكان فيمن بايعه أبو بردة بن أبي موسى ، فقال شبيب لأصحابه : هذا ابن أحد الحكمين . فأرادوا قتله ، فقال شبيب : ما ذنب هذا ؟ وتركه ، وسلموا على شبيب بإمرة المؤمنين وخلى سبيلهم ، فبقوا كذلك حتى انفجر الفجر ، فلما ظهر الفجر أمر محمد بن موسى مؤذنه فأذن ، وكان لم ينهزم ، فسمع شبيب الأذان فقال : ما هذا ؟ قالوا : محمد بن موسى بن [ ص: 449 ] طلحة لم يبرح . فقال : قد ظننت أن حمقه وخيلاءه يحمله على هذا . ثم نزل شبيب فأذن هو وصلى بأصحابه الصبح ، ثم ركبوا فحملوا على محمد وأصحابه ، فانهزمت طائفة منهم وثبتت معه طائفة ، فقاتل حتى قتل ، وأخذت الخوارج ما كان في العسكر ، وانهزم الذين كانوا بايعوا شبيبا ، فلم يبق منهم أحد .

ثم أتى شبيب الجوسق الذي فيه أعين وأبو الضريس فتحصنوا منه ، فأقام عليهم ذلك اليوم وسار عنهم . فقال أصحابه : ما دون الكوفة أحد يمنع . فنظر وإذا أصحابه قد جرحوا ، فقال لهم : ما عليكم أكثر مما فعلتم . فخرج بهم على نفر ، ثم على الصراة ، فأتى خانيجار فأقام بها . فبلغ الحجاج مسيره نحو نفر فظن أنه يريد المدائن ، وهي باب الكوفة ، ومن أخذها كان في يده من السواد أكثره ، فهال ذلك الحجاج ، فبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وجوخى والأنبار ، وعزل عنها عبد الله بن أبي عصيفر ، وكان بها الجزل يداوي جراحته ، فلم يتعهده عثمان كما كان ابن أبي عصيفر يفعل ، فقال الجزل : اللهم زد ابن أبي عصيفر جودا وفضلا ، وزد عثمان بن قطن بخلا وضيقا .

وقد قيل في مقتل محمد بن موسى غير هذا ، والذي ذكر من ذلك أن محمد بن موسى كان قد شهد مع عمر بن عبيد الله بن معمر قتال أبي فديك ، وكان شجاعا ذا بأس ، فزوجه عمر ابنته ، وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان ، فولاه سجستان ، فمر بالكوفة وفيها الحجاج فقيل له : إن صار هذا بسجستان مع صهره ، لعبد الملك ، فلجأ إليه أحد ممن تطلب - منعك منه فقال : وما الحيلة ؟ قال : تأتيه وتسلم عليه وتذكر نجدته وبأسه ، وأن شبيبا في طريقه ، وأنه قد أعياك ، وترجو أن يريح الله منه على يده ، فيكون له ذكره وفخره .

ففعل الحجاج ذلك ، فأجابه محمد وعدل إلى شبيب ، فأرسل إليه شبيب : إنك مخدوع ، وإن الحجاج قد اتقى بك وأنت جار لك حق ، فانطلق لما أمرت به ، ولك الله لا أوذيك . فأبى إلا محاربته ، فواقفه شبيب وأعاد إليه الرسول ، فأبى وطلب البراز ، فبرز إليه البطين بن قعنب ، وسويد بن سليم ، فأبى إلا شبيبا ، فقالوا ذلك لشبيب ، فبرز شبيب إليه وقال له : أنشدك الله في دمك ، فإن لك جوارا . فأبى ، فحمل شبيب عليه فضربه [ ص: 450 ] بعمود حديد وزنه اثنا عشر رطلا بالشامي ، فهشم البيضة ورأسه ، فسقط ميتا ، ثم كفنه ودفنه ، وابتاع ما غنموا من عسكره فبعثه إلى أهله واعتذر إلى أصحابه ، وقال : هو جاري ، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة .

التالي السابق


الخدمات العلمية