الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            النقول المشرقة في مسألة النفقة

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وقع السؤال عن رجل تزوج بامرأة حرة ، وأراد الدخول عليها في منزله فامتنعت من ذلك ، وقالت : أنا لا أخرج من منزلي ، فسكن معها في منزلها ، فهل يلزمه نفقة أم لا ؟ وأقول : عبارة الروضة إذا زوج أمته لم يلزمه تسليمها إلى الزوج ليلا ونهارا لكن يستخدمها نهارا ويسلمها ليلا ، ولو قال السيد : لا أخرجها من داري ، ولكن أخلي لك بيتا لتدخله ، وتخلو بها فقولان ، أظهرهما ليس له ذلك ؛ فإن الحياء والمروءة يمنعانه دخول دار غيره ، وعلى هذا فلا نفقة على الزوج ، كما لو قالت الحرة : أدخل بيتي ولا [ ص: 264 ] أخرج إلى بيتك ، والثاني للسيد ذلك ؛ لتدوم يده على ملكه ، مع تمكن الزوج من حقه ، فعلى هذا تلزمه النفقة - هذه عبارة الروضة وهي صريحة ، أو ظاهرة في أن ذلك فيما إذا جاء الزوج ، واستمتع بها في منزلها ، بدليل قياس مسألة الأمة عليها ، فإن محل مسألة الأمة فيما إذا فعل الزوج ذلك بلا شك ، فكذلك مسألة الحرة المقيس عليها ، ولو كانت مسألة الحرة فيما إذا لم يفعل ، ومسألة الأمة فيما إذا فعل لم يصح القياس ، كما لا يخفى ؛ إذ الفارق حينئذ أن يفرق بين المقيس والمقيس عليه بوجود الاستمتاع في هذا دون هذا ، فإن زعم زاعم أن مسألة الأمة أيضا محلها فيما إذا لم يفعل .

            قلنا : قد صرح الشيخ جلال الدين المحلي في شرح المنهاج ، بخلاف ذلك فقال ما نصه : ولو أخلى السيد في داره بيتا ، وقال للزوج : تخلو بها فيه لم يلزمه ذلك في الأصح ؛ لأن الحياء والمروءة يمنعانه من دخول داره ، ولو فعل ذلك فلا نفقة عليه - هذا لفظه ، ويقويه من جهة المعنى أمران ، أحدهما : أنها لو كانت فيما إذا لم يدخل لم يكن فيها قول بوجوب النفقة ، فإن الزوج إذا لم يدخل لا نفقة عليه بلا خلاف ، والخلاف في هذه مصرح به في الروضة ، والشرح كما ترى ، فتعين أن يكون محله فيما إذا دخل ، والوجه الثاني : أن هذه المسألة كمسألة ما إذا استخدمها السيد نهارا ، وسلمها للزوج ليلا ، والمرجح في تلك أنه لا نفقة على الزوج مع دخوله واستمتاعه كل ليلة ، فكذا هذه ، بل هذه أولى ؛ لأن الحرج فيها أضيق من تلك ، فإنه هناك تسلمها نصف تسليم ؛ وهو الليل كله الذي هو محل الاستمتاع ، وهنا لم يتسلمها أصلا ، ويؤكد ما قلناه من الأولوية أمر آخر ، وهو أن قول السيد لا أسلمها إليك نهارا بل ليلا فقط مقبول منه ومجاب إليه ، وقوله : " لا أخرجها من داري ، ولكن أخلي لك بيتا فيها " غير مقبول منه ولا مجاب إليه ، فإذا لم يلزم الزوج نفقة في حالة مجاب إليها السيد شرعا ، فكيف يتخيل أن تلزمه النفقة في حالة لا يجاب السيد إليها شرعا - هذا ما أفهمته عبارة الروضة .

            وقال في الروضة أيضا في كتاب النفقات ما نصه : فرع : لو قالت المرأة : لا أمكن إلا في بيتي ، أو في موضع كذا ، أو بلد كذا فهي ناشزة ، وعبر الرافعي في الشرح بأوضح من عبارة الروضة ، فقال : ولو قالت المرأة : لا أمكن إلا في بيتي ، أو في بيت كذا ، أو بلد كذا فهي ناشزة ؛ لأن التمكين التام لم يوجد ، وهذا كما لو سلم البائع المبيع ، وشرط أن لا ينقله إلى موضع كذا هذه عبارة الرافعي فانظر كيف علله بقوله : لأن التمكين التام لم يوجد ، فدل على أنه وجد تمكين ناقص ، والتمكين الناقص لا تجب معه نفقة وإن استمتع الزوج ، كما عللوا به مسألة الأمة إذا استخدمها السيد نهارا وأسلمها للزوج ليلا فإنه لا نفقة على الزوج مع رضاه به ، وإجباره عليه شرعا ؛ لأنه ليس بتمكين تام ، وانظر أيضا كيف شبهه الرافعي بمسألة تسليم [ ص: 265 ] البائع المبيع بشرط أن لا ينقله فإن هذا لا يكون تسليما تاما وإن رضي به المشتري ، ثم راجعنا كتاب التتمة للمتولي ، فوجدنا عبارته أوضح من عبارة الرافعي ، والسر في ذلك : أن الكتب الأصول تبسط فيها العبارة بسطا لا يبقى معه إشكال على قاصري الفهم ، والكتب المأخوذة منها تكف فيها العبارة اتكالا على فهم الفطن ، أو توقيف الموقف ، ولما كانت الروضة مأخوذة من الشرح كانت عبارة الشرح أوضح من عبارتها ، ولما كان الشرح مأخوذا من مثل التتمة ونحوها كانت عبارتهم أوضح ، وعبارة التتمة نصها : التسليم الذي يتعلق به استحقاق النفقة أن تقول المرأة لزوجها : أنا في طاعتك فخذني إلى أي مكان شئت ، فإذا أظهرت الطاعة من نفسها على هذا الوجه فقد جعلت ممكنة ، سواء تسلمها الزوج أو لم يتسلمها ، فأما إذا قالت : أسلم نفسي إليك في منزلي أو في موضع كذا دون غيره من المواضع لم يكن هذا تسليما تاما ، كالبائع إذا قال للمشتري : أسلم المبيع إليك على شرط أن لا تنقله من موضعه ، أو على شرط أن تتركه في موضع كذا لم يكن تسليما للمبيع ، حتى يجب تسليم الثمن على قولنا : تجب البداية بتسليم المبيع - هذا نص التتمة بحروفه ، ومنه أخذ الرافعي .

            وقال في التتمة أيضا في مسألة الأمة : لو قال السيد للزوج : أذنت لك أن تدخل منزلي متى شئت من ليل أو نهار ، ولكني لا أمكن الجارية من الخروج من داري ، فمن أصحابنا من قال : لها النفقة ؛ لأن للسيد فيها حقا فلا يمكن أن يكلف إزالة يده ، والزوج قد يمكن منها على الإطلاق ، ومنهم من قال : لا تستحق النفقة ؛ لأن الزوج يحتشم من دخول داره في كل وقت ، فلا يكمل التسليم - هذه عبارته ، فانظر كيف علل الوجه القائل بعدم النفقة ، الذي هو المصحح في الروضة بعدم كمال التسليم ، فاندفع قول من قال : إن التسليم في مسألة لو أخلى في داره بيتا كاملا ، إذ يدخل عليها من شاء من ليل أو نهار ، بخلاف مسألة تسليمها ليلا لا نهارا ؛ فإنه ناقص فيها ، فها أنت قد رأيت تصريح المتولي بخلافه .

            وقد صرح المتولي أيضا في مسألة الحرة بالتسوية بين ما إذا قالت : أسلم نفسي ليلا ، وبين ما إذا قالت : لا أسلم نفسي إلا في بيتي ، فقال ما نصه : الثالث عشر : السيد إذا زوج أمته ، فإن سلمها إلى الزوج ليلا ونهارا وجبت نفقتها ، وأما إن سلمها ليلا دون النهار اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه : أحدها لا تستحق النفقة ، وهو اختيار ابن أبي هريرة ، ووجهه أنه تسليم ناقص فلا تستحق النفقة ، كالحرة إذا قالت : أسلم نفسي ليلا ، أو قالت : أسلم نفسي في موضع مخصوص ، والثاني : تجب النفقة بخلاف الحرة ، والفرق أن للزوج أن يسافر بها ، وليس له أن يسافر بالأمة ، فانظر بحمد الله إلى هذا التصريح المطابق لما فهمناه ، وكيف قطع بعدم وجوب [ ص: 266 ] النفقة في الحرة في مسألتين : التسليم ليلا ، والتسليم في موضع مخصوص ، وفرق بينها وبين الأمة ، حيث [ جرى ] الخلاف فيها بأن الزوج يملك المسافرة بالحرة ، فكان امتناعها من النقلة نشوزا كامتناعها من المسافرة معه ، ولا يملك المسافرة بالأمة ، فجرى وجه أنه لا يملك نقلها فلم يكن نشوزا ، ولا مسقطا للنفقة على هذا الوجه .

            وقد صرح النووي أيضا في الروضة بالتفرقة المذكورة ، فقال : لو سامح السيد فسلمها ليلا ونهارا فعلى الزوج تسليم المهر ، وتمام النفقة ، وإن لم يسلمها إلا ليلا فهل تجب جميع النفقة ، أو نصفها أم لا يجب شيء ؟ فيه أوجه ، أصحها عند جمهور العراقيين ، والبغوي أنه لا يجب شيء ، ويجري الوجهان الأخيران فيما إذا سلمت الحرة نفسها ليلا ، واشتغلت عن الزوج نهارا . قلت : الصحيح الجزم في الحرة أنه لا يجب شيء في هذا الحال ، والله أعلم ، فانظر كيف صحح طريقة الجزم في الحرة مع إجراء الخلاف في الأمة .

            وأما قول من قال : كيف يدخل ويستمتع في غير مقابل ؟ فجوابه : أنه في مقابلة المهر ، وقد قال في الروضة هنا ما نصه : وأما المهر فقال الشيخ أبو حامد : لا يجب تسليمه كالنفقة ، وقال القاضي أبو الطيب : يجب ، قال ابن الصباغ : لأن التسليم الذي يتمكن معه من الوطء قد حصل وليس كالنفقة فإنها لا تجب بتسليم واحد . قلت : الأصح الوجوب ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية