الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 56 ] أما قوله تعالى : ( قال الحواريون نحن أنصار الله ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ذكروا في لفظ " الحواري " وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل ، وخالصته ، ومنه يقال للدقيق حوارى ، لأنه هو الخالص منه ، وقال - صلى الله عليه وسلم - للزبير : " إنه ابن عمتي ، وحواري من أمتي " والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود ، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : الحواري أصله من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه قيل للدقيق حوارى ، ومنه الأحور ، والحور نقاء بياض العين ، وحورت الثياب : بيضتها ، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم ؟ فقال سعيد بن جبير : لبياض ثيابهم ، وقيل كانوا قصارين ، يبيضون الثياب ، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحا لهم ، وإشارة إلى نقاء قلوبهم ، كالثوب الأبيض ، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب ، طاهر الذيل ، إذا كان بعيدا عن الأفعال الذميمة ، وفلان دنس الثياب : إذا كان مقدما على ما لا ينبغي .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : قال الضحاك : مر عيسى - عليه السلام - بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب ، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري ، وهو القصار ، فعربت هذه اللفظة فصارت حواري ، وقال مقاتل بن سليمان : الحواريون : هم القصارون ، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            فالقول الأول : إنه - عليه السلام - مر بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم : " تعالوا نصطاد الناس " قالوا : من أنت ؟ قال : " أنا عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله " فطلبوا منه المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به ، فهم الحواريون .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : قالوا : سلمته أمه إلى صباغ ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته ، فقال له : هاهنا ثياب مختلفة ، وقد علمت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان ، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب فطبخ عيسى - عليه السلام - جبا واحدا ، وجعل الجميع فيه وقال : " كوني بإذن الله كما أريد " فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت علي الثياب ، قال : " قم فانظر " فكان يخرج ثوبا أحمر ، وثوبا أخضر ، وثوبا أصفر كما كان يريد ، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به فهم الحواريون .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : كانوا الحواريون اثني عشر رجلا اتبعوا عيسى -عليه السلام - ، وكانوا إذا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا :يا روح الله عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج الماء فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك فقال : " أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه " فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسموا حواريين .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : أنهم كانوا ملوكا ، قالوا وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما ، وجمع الناس عليه ، وكان [ ص: 57 ] عيسى - عليه السلام - على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : تعرفونه ، قالوا : نعم ، فذهبوا بعيسى -عليه السلام - ، قال : من أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون قال القفال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السمك ، وبعضهم من القصارين ، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى -عليه السلام - ، وأعوانه ، والمخلصين في محبته ، وطاعته ، وخدمته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : المراد من قوله : ( نحن أنصار الله ) أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه ؛ لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال ، فالمراد منه ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( آمنا بالله ) فهذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله ، لأجل أنا آمنا بالله ، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذب عن أوليائه ، والمحاربة مع أعدائه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قالوا : ( واشهد بأنا مسلمون ) وذلك لأن إشهادهم عيسى - عليه السلام - على أنفسهم ، إشهاد لله تعالى أيضا ، ثم فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك ، والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى - عليه السلام - على إيمانهم ، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى ، وقالوا : ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا في الآية المتقدمة : ( آمنا بالله ) ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا : ( آمنا بما أنزلت ) وآمنوا برسول الله حيث ، قالوا : ( واتبعنا الرسول ) فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ، فقالوا : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ، ويفضل على درجته ، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ البقرة : 143 ] . الثاني : وهو منقول أيضا عن ابن عباس ( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي اكتبنا في زمرة الأنبياء ؛ لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلا ، فأحيوا الموتى ، وصنعوا كل ما صنع عيسى - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق ، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى - عليه السلام - على إسلام أنفسهم ، حيث قالوا : ( واشهد بأنا مسلمون ) فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيدا للأمر ، وتقوية له ، وأيضا طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوة .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : إن قوله : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) [ المطففين : 18 ] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 58 ] القول الخامس : إنه تعالى قال : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) [ آل عمران : 18 ] فجعل أولي العلم من الشاهدين ، وقرن ذكرهم بذكر نفسه ، وذلك درجة عظيمة ، ومرتبة عالية ، فقالوا : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول السادس : إن جبريل - عليه السلام - لما سأل محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه" وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية ، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود ، لا في مقام الغيبة ، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال ، إلى مقام الشهود والمكاشفة ، فقالوا : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام ، فلما قبلوا من عيسى - عليه السلام - أن يكونوا ناصرين له ، ذابين عنه ، قالوا : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك ، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب ، فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية