الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ، ولا بأس أن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب ) قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام رضي الله عنه يقول : تحت اللفظ إشارة إلى أنه لا يثاب على ذلك ، فإنه قال لا بأس ، وهذا اللفظ لرفع الحرج لا لإيجاب الثواب معناه يكفيه أن ينجو من هذا رأسا برأس ، وهو المذهب عند الفقهاء رحمهم الله وأصحاب الظواهر يكرهون ذلك ويؤنبون من فعله قالوا ; لأن فيه مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر من [ ص: 284 ] الطريقة ، فإنه { لما قيل له : ألا نهد مسجدك ثم نبنيه فقال : لا عرش كعرش موسى أو قال عرش كعرش موسى وكان سقف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد فكان ينكشف إذا مطروا حتى كانوا يسجدون في الماء والطين } وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزين مزخرف فجعل يقول : لمن هذه البيع ؟ ، وإنما قال ذلك لكراهيته هذا الصنع في المساجد ، ولما بعث الوليد بن عبد الملك أربعين ألف دينار ليزين بها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بها على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال المساكين أحوج إلى هذا المال من الأساطين والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من أشراط الساعة أن تزخرف المساجد وتعلى المنارات وقلوبهم خاوية من الإيمان } ، ولكنا نقول لا بأس بذلك لما فيه من تكثير الجماعة وتحريض الناس على الاعتكاف في المسجد والجلوس فيه لانتظار الصلاة ، وفي كل ذلك قربة وطاعة والأعمال بالنيات ثم الدليل على أنه لا بأس بذلك ما روي أن أول من بنى مسجد بيت المقدس داود عليه السلام ثم أتمه سليمان عليه السلام بعده وزينه حتى نصب على رأس القبة الكبريت الأحمر وكان أعز وأنفس شيء وجد في ذلك الوقت فكان يضيء من ميل وكن الغزالات يبصرن ضوءه بالليالي من مسافة ميل والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أول من زين المسجد الحرام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه زين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد فيه .

وكذلك عثمان رضي الله عنه بعده بنى المسجد بماله وزاد فيه وبالغ في تزيينه فدل أن ذلك لا بأس به ، وأن تأويل ما روي بخلاف هذا ما أشار إليه في آخر الحديث { وقلوبهم خاوية من الإيمان } أي يزينون المساجد ، ولا يداومون على إقامة الصلاة فيها بالجماعة والمراد التزين بما ليس بطيب من الأموال أو على قصد الرياء والسمعة فعلى بعض ذلك يحمل ليكون جمعا بين الآثار ، وهذا كله إذا فعل المرء هذا بمال نفسه مما اكتسب من حله فأما إذا فعله بمال المسجد ، فهو آثم في ذلك ، وإنما يفعل بمال المسجد ما يكون فيه أحكام البناء فأما التزين فليس من أحكام البناء في شيء حتى قال مشايخنا رحمهم الله للمتولي أن يجصص الحائط بمال المسجد وليس له أن ينقش الجص بمال المسجد ، ولو فعله كان ضامنا ; لأن في التجصيص أحكام البناء ، وفي النقش على الجص تزيين البناء لا إحكامه فيضمن المتولي ما ينفق على ذلك من مال المسجد .

( قال : ألا ترى أن الرجل قد يبني لنفسه دارا وينقش سقفها بماء الذهب فلا يكون آثما في ذلك ؟ ) يريد به أن فيما ينفق على ذلك [ ص: 285 ] للتزين يقصد به منفعة نفسه خاصة ، وفيما ينفق على المسجد للتزين منفعته ، ومنفعة غيره ، فإذا جاز له أن يصرف ماله إلى منفعة نفسه بهذا الطريق فلأن يجوز صرفه إلى منفعته ومنفعة غيره كان أولى ، وقد أمرنا في المساجد بالتعظيم ، ولا شك أن معنى التعظيم يزداد بالتزيين في قلوب بعض الناس من العوام فيمكن أن يقال بهذا الطريق يؤجر هو على ما فعله ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يثاب المؤمن على إنفاق ماله في كل شيء إلا في البنيان } زاد في بعض الروايات ما خلا المساجد فإن ثبتت هذه الزيادة ، فهو دليل على أنه يثاب فيما ينفق في بناء المسجد وتزيينه وعلى هذا أمر اللباس ، فإنه لا بأس للرجل أن يتجمل بلبس أحسن الثياب وأجودها ، فقد { كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة فنك علمها من الحرير فكان يلبسها في الأعياد وللوفود } إلا أن الأولى أن يكتفى بما دون ذلك في المعتاد منه لبسه على ما روي { أن ثوب مهنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كأنه ثوب دهان } ، وكذلك لا بأس بأن يتسرى بجارية حسناء فإنه { صلى الله عليه وسلم مع ما كان عنده من الحرائر تسرى حتى استولد مارية أم إبراهيم رضي الله عنهما } وعلي رضي الله عنه مع ما كان عنده من الحرائر كان تسرى حتى استولد أم محمد بن الحنفية رضي الله عنه فعرفنا أنه لا بأس بذلك والأصل فيه قوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية

التالي السابق


الخدمات العلمية