الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة الآيتين .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري، ومسلم ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها، للطواغيت، ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة : كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، قال : وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر [ ص: 557 ] قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب)، قال ابن المسيب : والوصيلة، الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل، فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، في (نوادر الأصول)، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في (الأسماء والصفات)، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب فقال لي : (هل لك من مال؟)، قلت : نعم، قال : (من أي المال؟) قلت : من كل المال، من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق، قال : (فإذا آتاك الله مالا فلير عليك)، ثم قال : (تنتج إبلك وافية آذانها؟) قلت : نعم، وهل تنتج الإبل إلا كذلك قال : (فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها، وتقول : هذه صرم؟) قلت : نعم، قال : (فلا تفعل، إن كل ما آتاك الله لك حل)، ثم قال : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام قال أبو الأحوص : أما البحيرة فهي التي [ ص: 558 ] يجدعون آذانها، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها، ولا أوبارها، ولا أشعارها، ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما السائبة : فهي التي يسيبون لآلهتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الوصيلة : فالشاة تلد ستة أبطن، وتلد السابع جديا وعناقا، فيقولون : قد وصلت، فلا يذبحونها، ولا تضرب، ولا تمنع مهما وردت على حوض، وإذا ماتت كانوا فيها سواء، والحام من الإبل إذا أدرك له عشرة من صلبه، كلها تضرب، حمى ظهره فسمي الحام، فلا ينتفع له بوبر، ولا ينحر، ولا يركب له ظهر، فإذا مات كانوا فيه سواء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال : البحيرة، هي الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها، فقالوا : هذه بحيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما السائبة : فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم، لا يركبون لها ظهرا، ولا يحلبون لها لبنا، ولا يجزون لها وبرا، ولا يحملون عليها شيئا، وأما الوصيلة : فالشاة إذا أنتجت سبعة أبطن نظروا السابع، فإن كان ذكرا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوا، وإن كان ذكرا وأنثى في بطن استحيوهما، وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحام : فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا : حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئا، ولا يجزون له وبرا، ولا يمنعونه من حمى رعي، ولا [ ص: 559 ] من حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ما جعل الله من بحيرة قال : البحيرة الناقة، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن، فيعمد إلى الخامسة، فما لم يكن سقبا فيبتك آذانها، ولا يجز لها وبرا، ولا يذوق لها لبنا، فتلك البحيرة، ولا سائبة كان الرجل يسيب من ماله ما شاء، ولا وصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعا عمد إلى السابع، فإن كان ذكرا ذبح، وإن كانت أنثى تركت، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما قالوا : وصلت أخاها، فيتركان جميعا لا يذبحان، فتلك الوصيلة، ولا حام كان الرجل يكون له الفحل، فإذا ألقح عشرا قيل : حام، فاتركوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : ما جعل الله من بحيرة الآية، قال : البحيرة من الإبل، كان أهل الجاهلية يحرمون وبرها، وظهرها، ولحمها، ولبنها، إلا على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها، فإن ماتت اشترك الرجال والنساء [ ص: 560 ] في أكل لحمها، فإذا ضرب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي، والسائبة من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت في السابع ذكرا أو أنثى، أو ذكرين ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم، فإن توأمت أنثى وذكر فهي وصيلة، ترك ذبح الذكر بالأنثى، وإن كانتا أنثيين تركتا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، عن أبي سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فاستأخر عن قبلته، وأعرض بوجهه، وتعوذ بالله، ثم دنا من قبلته، حتى رأيناه يتناول بيده، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : يا نبي الله، لقد صنعت اليوم في صلاتك شيئا ما كنت تصنعه؟ قال : (نعم، عرضت علي في مقامي هذا الجنة والنار، فرأيت في النار ما لا يعلمه إلا الله، ورأيت فيها الحميرية صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت في رباطها، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو الذي سيب السوائب، وبحر البحيرة، ونصب الأوثان، وغير دين إسماعيل، ورأيت فيها عمران الغفاري معه محجنه الذي كان يسرق به الحاج)، قال : وسمى لي الرابع فنسيته، (ورأيت الجنة فلم أر مثل ما فيها، فتناولت منها قطفا لأريكموه، فحيل بيني وبينه)، فقال رجل من القوم : مثل ما الحبة منه؟ قال : (كأعظم دلو فرته أمك قط)، قال محمد بن إسحاق : [ ص: 561 ] فسألت عن الرابع فقال : هو صاحب ثنيتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزعهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري، وابن مردويه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : يا أكثم، عرضت علي النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك)، فقال أكثم : أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا، إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إني لأعرف أول من سيب السوائب، [ ص: 562 ] ونصب النصب، وأول من غير دين إبراهيم) ، قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : (عمرو بن لحي أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قصبه في النار، يؤذي أهل النار ريح قصبه، وإني لأعرف أول من بحر البحائر، قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، وظهورهما، وقال : هاتان لله، ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما، قال : فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما، وتطآنه بأخفافهما) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي بن كعب قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر، والناس في الصفوف خلفه، فرأيناه تناول شيئا، فجعل يتناوله فتأخر، فتأخر الناس، ثم تأخر الثانية، فتأخر الناس، فقلت : يا رسول الله، رأيناك صنعت اليوم شيئا ما كنت تصنعه في الصلاة فقال : (إنه عرضت علي الجنة بما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت قطفا من عنبها، ولو أخذته لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه، فحيل بيني وبينه، وعرضت علي النار، فلما وجدت سفعتها تأخرت عنها، وأكثر من رأيت فيها النساء، إن ائتمن أفشين، وإن سألن ألحفن، وإذا سئلن بخلن، وإذا أعطين لم يشكرن، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي)، فقال معبد : يا رسول الله، أتخشى علي من شبهه؟ قال : [ ص: 563 ] (لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون قال : لا يعقلون تحريم الشيطان الذي حرم عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن محمد بن أبي موسى في الآية قال : الآباء جعلوا هذا وماتوا، ونشأ الأبناء، وظنوا أن الله هو جعل هذا، فقال الله : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب الآباء، فالآباء افتروا على الله الكذب، والأبناء أكثرهم لا يعقلون، يظنون الله هو الذي جعله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن أبي موسى في قوله : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب قال : أهل الكتاب، وأكثرهم لا يعقلون قال : أهل الأوثان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الشعبي في قوله : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون قال : الذين لا يعقلون هم الأتباع، وأما الذين افتروا فعقلوا أنهم افتروا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية