الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدي قال الله تعالى بعد ما ذكر في شأن المحصر : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المحصر بالحج إذا حل بالهدي ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ومجاهد عن عبد الله بن مسعود قالا : " عليه عمرة وحجة ، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه " وكذلك قال علقمة والحسن وإبراهيم وسالم والقاسم ومحمد بن سيرين ، وهو قول أصحابنا .

وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : أمر الله بالقصاص أو يأخذ منكم العدوان حجة بحجة وعمرة بعمرة " . وروي عن الشعبي قال : " عليه حجة " . وإنما يوجب أبو حنيفة عليه حجة وعمرة إذا أحل بالدم ثم لم يحج من عامه ذلك ، فلو أنه أحل من إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة ؛ وذلك لأن هذه العمرة إنما هي التي تلزم بالفوات ؛ لأن من فاته الحج فعليه أن يتحلل بعمل عمرة ، فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات ، والدم الذي عليه في الإحصار إنما هو للإحلال ولا يقوم [ ص: 346 ] مقام العمرة التي تلزم بالفوات ؛ وذلك لأنه ليس في الأصول عمرة يقوم مقامها دم ، ألا ترى أن من نذر عمرة لم ينب عنه دم لا في حال العذر ولا في حال الإمكان ؟ وكذلك من يجعل العمرة فريضة لا يجعل الدم نائبا عنها بحال ؛ فلما كان الفوات قد ألزمه عمل عمرة لم يجز أن ينوب عنها دم ، فثبت بذلك أن الدم إنما هو للإحلال فحسب . ويدل على ذلك أن العمرة التي تلزم بالفوات غير جائز فعلها قبل الفوات لعدم وقتها وسببها ، ودم الإحصار يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات ، باتفاق منا ومن مخالفينا ، فدل ذلك على أن الدم هو للإحلال لا على أنه قائم مقام العمرة . ولا يسوغ لمالك والشافعي أن يجعلا دم الإحصار قائما مقام العمرة الواجبة بالفوات ؛ لأنهما يقولان : " الذي يفوته الحج عليه مع عمرة الفوات هدي " فهدي الإحصار عندهما هو الذي يلزم بالفوات ، فلا يقوم مقام العمرة كما لا يقوم مقامه بعد الفوات .

فإن قيل : فأنت تجيز صوم ثلاثة أيام المتعة بعد إحرام العمرة قبل يوم النحر ، وهو بدل من الهدي ، والهدي نفسه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر . قيل له : إنما جاز ذلك لوجود سبب المتعة وهو العمرة ، فجاز تقديم بعض الصوم على وقت ذبح الهدي ، ولم يوجد للمحصر سبب للزوم العمرة ؛ لأن سببه إنما هو طلوع الفجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة ، فلذلك لم يقم الدم مقام العمرة التي تلزم بالفوات . ويدل على أن الدم غير قائم مقام العمرة التي تلزم بالفوات أنه يلزم المعتمر وهو لا يخشى الفوات لأنها غير موقتة ؛ فدل ذلك على أن هذا الدم لا يتعلق بالفوات وأنه موضوع لتعجيل الإحلال بدلالة أنه لم يختلف فيه حكم ما يخشى فوته وحكم ما لا يخشى فوته في لزوم الدم .

فإن قيل : في حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يذكر فيه عمرة ، ولو كانت واجبة معه لذكرها كما ذكر وجوب قضاء الحج . قيل له : ولم يذكر دما ، ومع ذلك فلا يجوز له أن يحل إلا بدم ؛ وإنما أراد صلى الله عليه وسلم الإخبار عن الإحصار بالمرض ووجوب قضاء ما يحل فيه . وقد ذهب عبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية سعيد بن جبير إلى أن قوله عقيب ذكر حكم المحصر : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أراد به العمرة التي تجب بالإحلال من الحج إذا جمعها إلى الحج الذي أحل منه في أشهر الحج فعليه الفداء . وروي عن ابن عباس قول آخر في المحصر ، وهو ما رواه عبد الرزاق قال : حدثنا الثوري عن ابن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال : [ ص: 347 ] " الحبس حبس العدو ، فإن حبس وليس معه هدي حل مكانه ، وإن كان معه هدي حل به ولم يحل حتى ينحر الهدي وليس عليه حجة ولا عمرة " . وقد روي عن عطاء إنكار ذلك على رواية رواها محمد بن بكر قال : أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن دينار قال : قال ابن عباس : " ليس على من حصره العدو هدي حسب أنه قال : " ولا حج ولا عمرة " قال ابن جريج : فذكرت ذلك لعطاء قلت : هل سمعت ابن عباس يقول ليس على المحصر هدي ولا قضاء إحصاره ؟ قال : لا ؛ وأنكره . وهذه رواية لعمري منكرة خلاف نص التنزيل وما ورد بالنقل المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وقوله : فما استيسر من الهدي على أحد وجهين :

أحدهما : فعليه ما استيسر من الهدي ، والآخر : فليهد ما استيسر من الهدي ؛ فاقتضى ذلك إيجاب الهدي على المحصر متى أراد الإحلال ، ثم عقبه بقوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فكيف يسوغ لقائل أن يقول جائز له الإحلال بغير هدي مع ورود النص بإيجابه ومع نقل إحصار النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأمره إياهم بالذبح والإحلال .

واختلف الفقهاء في المحصر إذا لم يحل حتى فاته الحج ووصل إلى البيت ، فقال أصحابنا والشافعي : " عليه أن يتحلل بالعمرة ، ولا يصح له فعل الحج بالإحرام الأول " . وقال مالك : " يجوز له أن يبقى حراما حتى يحج في السنة الثانية ، وإن شاء تحلل بعمل عمرة " . والدليل على أنه غير جائز له أن يفعل بذلك الإحرام الأول حجا بعد الفوات اتفاق الجميع على أن له أن يتحلل بعمل عمرة ، فلولا أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا لما جاز له التحلل منه ؛ ألا ترى أنه غير جائز له أن يتحلل منه في السنة الأولى حين أمكنه فعل الحج به ؟ وفي ذلك دليل على أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا . وأيضا فإن فسخ الحج منسوخ بقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فعلمنا حين جاز له الإحلال أن موجبه في هذه الحال هو عمل العمرة لا عمل الحج ؛ لأنه لو أمكنه عمل الحج فجعله عمرة بالإحلال لكان فاسخا لحجه مع إمكان فعله ، وهذا لم يكن قط إلا في السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخ . وهو معنى قول عمر : " متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج " فأراد بمتعة الحج فسخه على نحو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أصحابه في حجة الوداع .

واختلفوا أيضا فيمن أحصر وهو محرم بحج تطوع أو بعمرة تطوع ، فقال أصحابنا : " عليه القضاء سواء كان [ ص: 348 ] الإحصار بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي " . وأما مالك والشافعي فلا يريان الإحصار بالمرض ويقولان : " إن أحصر بعدو فحل فلا قضاء عليه في الحج ولا العمرة " .

والدليل على وجوب القضاء قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله وذلك يقتضي الإيجاب بالدخول ، ولما وجب بالدخول صار بمنزلة حجة الإسلام والنذر ، فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل إتمامه سواء كان معذورا فيه أو غير معذور ؛ لأن ما قد وجب لا يسقطه العذر ، فلما اتفقوا على وجوب القضاء بالإفساد وجب عليه مثله بالإحصار .

ويدل عليه من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يفرق بين حجة الإسلام والتطوع . وأيضا فإن من ترك موجبات الإحرام لا يختلف فيه المعذور وغيره في ترك لزوم حكمه ؛ والدليل عليه أن الله قد عذر حالق رأسه من أذى ولم يخله من إيجاب فدية ، سواء كان ذلك في إحرام فريضة أو تطوع ؛ فكذلك ينبغي أن يكون حكم المحصر بحجة فرض أو نفل في وجوب القضاء ، وواجب أيضا أن يستوي حكم إفساده إياه بالجماع وخروجه منه بإحصار ، كما لم يخل من إيجاب كفارة في الجنايات الواقعة في الإحرام المعذور وغيره .

ويدل على وجوب القضاء على المحصر وإن كان معذورا اتفاق الجميع أن على المريض القضاء إذا فاته الحج وإن كان معذورا في الفوات ، كما يلزمه لو قصد إلى الفوات من غير عذر . والمعنى في استواء حكم المعذور وغير المعذور ما لزمه من الإحرام بالدخول وهو موجود في المحصر ، فوجب أن لا يسقط عنه القضاء .

ويدل عليه أيضا قصة عائشة حين حاضت وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وكانت محرمة بعمرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة ثم لما فرغت من الحج أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم ، وقال هذه مكان عمرتك فأمرها بقضاء ما رفضته من العمرة للعذر ، فدل ذلك على أن المعذور في خروجه من الإحرام لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة وقضوها في العام المقبل ، سميت عمرة القضاء ولو لم تكن لزمت بالدخول ووجب القضاء لما سميت عمرة القضاء ولكانت تكون حينئذ عمرة مبتدأة ، وفي ذلك دليل على لزوم القضاء بالإحلال والله الموفق .

[ ص: 349 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية