الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن دخل في صوم المتعة ثم وجد الهدي قال أصحابنا : " إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم أو بعدما صام قبل أن يحل فعليه الهدي ولا يجزيه غيره " وهو قول إبراهيم النخعي .

وقال مالك والشافعي : " إذا دخل في الصوم ثم وجد الهدي أجزأه الصوم وليس عليه هدي " وروي مثله عن الحسن والشعبي . وقال عطاء : " إذا صام يوما ثم أيسر فعليه الهدي ، وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر فليس عليه هدي وليصم السبعة " . والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ففرض الهدي قائم عليه ما لم يحل أو يمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق ، فمتى وجده فعليه أن يهدي وبطل صومه .

ومعلوم أن الهدي مشروط للإحلال ؛ لأنه لا يجوز أن يحل قبل ذبح الهدي ، لقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمتى لم يحل حتى وجد الهدي فعليه الهدي ؛ لأن الله تعالى لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم وبعده .

ويدل على أن الهدي مشروط للإحلال قوله تعالى : ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فأمرهم بقضاء التفث بعد ذبح الهدي ؛ فإذا كان كذلك وجب أن يراعى وقوع الإحلال ، فإن صام رجل ثم وجد الهدي لم ينتقض صومه ولم يلزمه الهدي لوجود المعنى الذي من أجله شرط الهدي ثم نقل عند عدمه إلى البدل ، وهو بمنزلة المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة ، والعاري إذا وجد ثوبا ، والمظاهر إذا فرغ من الصوم ثم وجد الرقبة ؛ لأن الفرض قد سقط عنه فلا ينتقض حكم المفعول منه .

وأما قبل الفراغ من هذه الأشياء التي ذكرنا فإن حكم البدل مراعى ، فإن تم وفرغ منه فقد وقع موقع البدل وأجزى عن أصل الفرض ، وإن وجد الأصل قبل الفراغ مما شرط له انتقض حكمه وعاد إلى أصل فرضه ، ألا ترى أن دخوله في الصلاة مراعى ومنتظر بها آخرها ؛ لأن ما يفسد آخرها يفسد أولها ؟ فوجب أن يكون حكم التيمم بعد دخوله في الصلاة [ ص: 371 ] منتظرا مراعى ، وكذلك صوم الظهار إذا دخل فيه فهو مراعى منتظر ؛ ألا ترى أنه لو أفطر فيه يوما انتقض كله وعاد إلى أصل فرضه ؟ كذلك إذا وجد الرقبة وهو في الصوم وجب أن ينتقض صومه عن الظهار ويعود إلى أصل فرضه ، كما لو تيمم ولم يدخل في الصلاة حتى وجد الماء انتقض تيممه ؛ لأنه وقع مراعى على شريطة أن لا يجد الماء حتى يقضي به الفرض .

وزعم بعض المخالفين أنه إذا ابتدأ بصوم الظهار فقد سقط عنه فرض الرقبة لصحة الجزء المفعول ، وكذلك الداخل في الصلاة بالتيمم فقد سقط عنه فرض الطهارة بالماء لهذه الصلاة ، وكذلك إذا دخل في صوم التمتع فقد سقط عنه فرض الهدي ؛ لأن الجزء المفعول منه قد صح ، وفي الحكم بصحة ذلك إسقاط فرض الأصل .

قال : وليس كذلك المتيمم إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة ؛ لأن التيمم غير مفروض في نفسه وإنما هو مفروض لأجل الصلاة وهو مراعى ، فمتى وجد الماء قبل دخوله في الصلاة بطل تيممه ، والذي في عروض التيمم بعد الدخول دخوله في الصوم .

وهذا الذي قاله شديد الاختلال ظاهر الفساد ؛ لأن الفرض لم يسقط بدخوله في صوم المتعة ولا في صوم الظهار ولا في الصلاة ، بل دخوله مراعى موقوف الحكم على آخره ؛ والدليل عليه أنه متى أفسد باقي الصلاة فسد ما قبله ، وكذلك إذا فسد باقي صوم الظهار فسد ما تقدم منه ، وكذلك لو دخل في صوم المتعة ثم أفسده في أول يوم منه فسد ؛ فإن كان واجدا للهدي لم يجزه الصوم بالاتفاق ، فقوله : " لما حكمنا بصحة الجزء المفعول من البدل سقط عنه فرض الأصل " خطأ ؛ لأن الحكم لم يقع بصحته ، وإنما حكمه أن يكون منتظرا به آخره ، فإن تم مع عدم فرض الأصل ثبت حكمه ، وإن وجد الأصل قبل تمامه بطل حكمه وعاد الأصل إلى فرضه . ومن حيث حكم للمتيمم بحكم الانتظار إلى أن يدخل في الصلاة ، وجب أن يكون حكمه بعد الدخول في الصلاة ؛ لأن الصلاة المفعولة به منتظر بها الفراغ منها ، فوجب أن لا يختلف حكمه في وجود الماء قبل دخوله في الصلاة وبعده ؛ وكذلك سائر ما ذكرنا من صوم التمتع وصوم الظهار ونحوه .

وقالوا جميعا في الصغيرة المدخول بها إذا فارقها زوجها : " إن عدتها الشهور وإنه لا يختلف حكمها عند عدم الحيض في وجوب انتظار عدة الطلاق أو بعده بعد وجوب الشهور في انتقالها إلى الحيض . وكذلك قالوا في الماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه وهو في الصلاة أو قبلها وتساوى حكم الحالين من الابتداء والبقاء في منع الصلاة ولزوم غسل الرجلين .

[ ص: 372 ] وكذلك قال الشافعي في المستحاضة إذا زالت استحاضتها وهي في الصلاة أو قبل دخولها فيها في استواء حكم الحالين في باب المنع منها إلا بعد تجديد الطهارة لها . وذكر بعض أصحاب مالك أن المرأة إذا طلقها زوجها طلاقا رجعيا ثم مات عنها ، كانت عليها عدة الوفاة ؛ لأنها كانت في حكم الزوجات عند الموت ، قال : " فلو أن رجلا كانت تحته أمة وطلقها كانت عليها عدة الأمة ، فإن عتقت وهي في العدة لم تنتقل عدتها إلى عدة الحرة وإن كان زوجها يملك رجعتها " قال : " لأنه لم يحدث هناك شيء يجب به عدة كما حدث الموت في المسألة التي قبلها ، وهو موجب للعدة " ويلزمه على هذا أن لا تنتقل عدة الصغيرة إذا حاضت ؛ لأنه لم يحدث ما يوجب العدة وهو وجود الحيض كما لا يجب العتق كما اقتضاه اعتلاله . قوله تعالى : وسبعة إذا رجعتم

روي عن عطاء قال : " إن شاء صامهن بمكة وإن شاء إذا رجع إلى أهله " . وروى الحسن قال : " إن شاء صام في الطريق وإن شاء إذا رجع إلى أهله " وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير . وقال ابن عمر والشعبي : " يصومهن إذا رجع إلى أهله " . وقوله تعالى : إذا رجعتم محتمل للرجوع من منى وللرجوع إلى أهله ، فهو على أول الرجوعين وهو الرجوع من منى .

ويدل عليه أن الله حظر صيام أيام التشريق وأباح السبعة بعد الرجوع ، فالأولى أن يكون المراد الوقت الذي أباح فيه الصوم بعد حظره وهو انقضاء أيام التشريق . قوله تعالى : تلك عشرة كاملة قال أبو بكر : قد قيل فيه وجوه :

منها : أنها كاملة في قيامها مقام الهدي فيما يستحق من الثواب ؛ وذلك لأن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب جواز الإحلال بها يوم النحر قبل صيام السبعة ، فكان جائزا أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب ، فأعلمنا الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه في استحقاق ثوابه وأن الحكم قد تعلق بالثلاثة في جواز الإحلال بها ؛ وفي ذلك أعظم الفوائد في الحث على فعل السبعة والأمر بتعجيلها بعد الرجوع لاستكمال ثواب الهدي .

وقيل فيه : إنه أزال احتمال التخيير وأن تكون " الواو " فيه بمعنى " أو " إذ كانت " الواو " قد تكون في معنى " أو " في بعض المواضع ، فأزال هذا الاحتمال بقوله : تلك عشرة كاملة وقيل : المعنى تأكيده في نفس المخاطب والدلالة على انقطاع التفصيل في العدد ، كما قال الشاعر :

ثلاث واثنتين فهن خمس وسادسة تميل إلى شمام

[ ص: 373 ] وجعل الشافعي هذا أحد أقسام البيان ، وذكر أنه من البيان الأول ؛ ولم يجعل أحد من أهل العلم ذلك من أقسام البيان ؛ لأن قوله : " ثلاثة وسبعة " غير مفتقر إلى البيان ولا إشكال على أحد فيه ، فجاعله من أقسام البيان مغفل في قوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية