الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن لم يجد إلا نبيذ التمر قال أبو حنيفة [ ص: 118 ] رحمه الله تعالى : يتوضأ به ولا يتيمم ) لحديث ليلة الجن ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ به حين لم يجد الماء وقال أبو يوسف رحمه الله : يتيمم ولا يتوضأ به وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله ، وبه قال الشافعي رحمه الله عملا بآية التيمم لأنها أقوى ، أو هو منسوخ بها لأنها مدنية ، وليلة الجن كانت مكية . وقال محمد رحمه الله : يتوضأ [ ص: 119 ] به ويتيمم لأن في الحديث اضطرابا وفي التاريخ جهالة فوجب الجمع احتياطا . قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة فلا يصح دعوى النسخ ، والحديث مشهور عملت به الصحابة رضي الله عنهم ، وبمثله يزاد على الكتاب . [ ص: 120 ] وأما الاغتسال به فقد قيل يجوز عنده اعتبارا بالوضوء ، وقيل لا يجوز لأن فوقه ، والنبيذ المختلف فيه أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء ، وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضؤ به ، وإن غيرته النار فما دام حلوا رقيقا فهو على الخلاف ، وإن اشتد فعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز التوضؤ به لأنه يحل شربه عنده ، وعند محمد رحمه الله لا يتوضأ به لحرمة شربه عنده ، ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريا على قضية القياس .

التالي السابق


( قوله لحديث ليلة الجن ) عن أبي فزارة عن أبي زيد عن { عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن : ما في إداوتك ؟ قال : نبيذ تمر ، قال : تمرة طيبة وماء طهور } أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، وفي رواية الترمذي " فتوضأ منه " ورواه ابن أبي شيبة مطولا ، وفيه { هل معك من وضوء ؟ قلت لا ، قال : فما في إداوتك ؟ قلت : نبيذ تمر ، قال : تمرة حلوة وماء طيب ، ثم توضأ وأقام الصلاة } قالوا ضعيف لأن الترمذي قال وأبو زيد مجهول ، وأبو فزارة قيل هو راشد بن كيسان ، وقيل رجل آخر مجهول . أجيب أما أبو زيد فذكر القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي أنه مولى عمرو بن حريث روى عنه راشد بن كيسان العبسي الكوفي وأبو روق وهذا يخرجه عن الجهالة ، وأما أبو فزارة فقال الشيخ تقي الدين في الإمام في تجهيله نظر ، فإنه روى هذا الحديث عن أبي فزارة جماعة من أهل العلم مثل سفيان وشريك والجراح بن مليح وإسرائيل وقيس بن الربيع ، وقال ابن عدي : أبو فزارة راوي هذا الحديث مشهور واسمه [ ص: 119 ] راشد بن كيسان ، وكذا قال الدارقطني . وأما ما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن ليلة الجن فقال : ما شهدها منا أحد فهو معارض بما في ابن أبي شيبة من أنه كان معه . وروى أيضا أبو حفص بن شاهين عنه أنه قال " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن " وعنه أنه رأى قوما من الزط فقال : هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ، والإثبات مقدم على النفي وإن جمعنا فالمراد ما شهدها منا أحد غيري نفيا لمشاركته وإبانة اختصاصه بذلك كما ذكره الإمام أبو محمد البطليوسي في كتاب التنبيه على الأسباب الموجبة للخلاف ( قوله قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة ) نظر فيه بأن وفد نصيبين كان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وكلامه يوهم أن ليلة الجن كانت بالمدينة ، ولم ينقل ذلك في كتب الحديث فيما علم ، لكن ذكر صاحب آكام المرجان في أحكام الجان أن ظاهر الأحاديث الواردة في وفادة الجن أنها كانت ست مرات ، وذكر منها مرة في بقيع الغرقد حضرها ابن مسعود ومرتين بمكة ومرة رابعة خارجة المدينة حضرها الزبير بن العوام ، وعلى هذا لا يقطع بالنسخ ( قوله : والحديث مشهور ) نظر فيه إذ المشهور ما كان آحادا في الأصل ثم تواتر عند المتأخرين ، وليس هذا كذلك بل تكلم فيه كثير من المتأخرين وإن لم يصح كلامه فوجب تصحيح الرواية الموافقة لقول أبي يوسف ، لأن آية التيمم ناسخة له

[ ص: 120 ] لتأخرها إذ هي مدنية وعلى هذا مشى جماعة من المتأخرين . واعلم أن قول محمد بوجوب الجمع بين الوضوء به والتيمم رواية أيضا عن أبي حنيفة صرح بذلك في خزانة الأكمل قال : التوضؤ بنبيذ التمر جائز من بين سائر الأشربة عند عدم الماء ، ويتيمم معه عند أبي حنيفة وبه أخذ محمد . وفي رواية : يتوضأ ولا يتيمم وفي رواية : يتيمم ولا يتوضأ به ، وبه أخذ أبو يوسف . وروى نوح الجامع أن أبا حنيفة رجع إلى هذا القول ثم قال في الخزانة . قال : مشايخنا إنما اختلفت أجوبته لاختلاف المسائل ، وسئل مرة إن كان الماء غالبا ، قال يتوضأ ، وسئل مرة إن كانت الحلاوة غالبة قال يتيمم ولا يتوضأ ، وسئل مرة إذا لم يدر أيهما الغالب قال يجمع بينهما ، وعلى هذا يجب التفصيل في الغسل إن كان النبيذ غالب الحلاوة قريبا من سلب الاسم لا يغتسل به أو ضده فيغتسل إلحاقا بطريق الدلالة أو مترددا فيه يجمع بين الغسل والتيمم . وأما من لم يلاحظوا هذا المبنى فقد اختلفوا في الجواز وعدمه كما ذكره المصنف ، وقد صحح في المبسوط الجواز ، وصحح في المفيد عدم الجواز لأن الجنابة أغلظ الحدثين . [ فرع ]

إذا قلنا بجواز التوضؤ به فلا يجوز إلا بالنية كالتيمم ، لأنه بدل عن الماء حتى لا يجوز به حال وجود الماء وينتقض به إذا وجد ، ذكره القدوري في شرحه من أصحابنا .




الخدمات العلمية