الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 217 ] فصل في العروض [ ص: 218 ] ( الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابا من الورق أو الذهب ) لقوله عليه الصلاة والسلام فيها { يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم } ، ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع ، وتشترط نية التجارة ليثبت الإعداد ، قال [ ص: 219 ] ( يقومها بما هو أنفع للمساكين ) احتياطا لحق الفقراء قال رضي الله عنه : وهذا رواية عن أبي حنيفة وفي الأصل خيره لأن الثمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء ، وتفسير الأنفع أن يقومها بما تبلغ نصابا .

وعن أبي يوسف أنه [ ص: 220 ] يقومها بما اشترى إن كان الثمن من النقود لأنه أبلغ في معرفة المالية ، وإن اشتراها بغير النقود قومها بالنقد الغالب وعن محمد أنه يقومها بالنقد الغالب على كل حال كما في المغصوب والمستهلك ( وإذا كان النصاب كاملا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة ) لأنه يشق اعتبار الكمال في أثنائه أو ما لا بد منه في ابتدائه للانعقاد وتحقق [ ص: 221 ] الغنى وفي انتهائه للوجوب ، ولا كذلك فيما بين ذلك لأنه حالة البقاء ، بخلاف ما لو هلك الكل حيث يبطل حكم الحول ، ولا تجب الزكاة لانعدام النصاب في الجملة ، ولا كذلك في المسألة الأولى لأن بعض النصاب باق فيبقى الانعقاد

التالي السابق


( فصل في العروض )

العروض جمع عرض بفتحتين : حطام الدنيا ، كذا في المغرب والصحاح . والعرض بسكون الراء المتاع ، وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير . وقال أبو عبيد : العروض الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون حيوانا ولا عقارا ، فعلى هذا جعلها هنا جمع عرض بالسكون أولى لأنه في بيان حكم الأموال التي هي غير النقدين والحيوانات ، كذا في النهاية ( قوله غير النقدين والحيوان ممنوع ) بل في بيان أموال التجارة حيوانا [ ص: 218 ] أو غيره على ما تقدم من أن السائمة المنوية للتجارة تجب فيها زكاة التجارة سواء كانت من جنس ما تجب فيه زكاة السائمة كالإبل أو لا كالبغال والحمير ، فالصواب اعتبارها هنا جمع عرض بالسكون على تفسير الصحاح فتخرج النقود فقط لا على قول أبي عبيد وإياه عنى في النهاية بقوله وعلى هذا فإنه فرع عليه إخراج الحيوان ( قوله كائنة ما كانت ) كائنة نصب على الحال من عروض التجارة ، ولفظ ما موصول خبرها واسمها المستتر فيها الراجع إلى عروض التجارة ، وكانت صلة ما واسمها المستتر الراجع إلى العروض أيضا ، وخبرها محذوف وهو المنصوب العائد على الموصول تقديره كائنة أو كانت إياه على الخلاف في الأولى في هذا الضمير من وصله أو فصله ، والمعنى : كائنة الذي كانت إياه من أصناف الأموال ، والذي عام فهو كقوله : كائنة أي شيء كانت إياه . ( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام " يقومها " إلخ ) غريب

وفي الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة ، فمن المرفوعة : ما أخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع } ا هـ . سكت عليه أبو داود ثم المنذري ، وهذا تحسين منهما ، وصرح ابن عبد البر بأن إسناده حسن ، وقول عبد الحق خبيب بن سليمان الواقع في سنده ليس بمشهور ولا يعلم روى عنه إلا جعفر بن سعد وليس جعفر ممن يعتمد عليه لا يخرج حديثه عن الحسن ، فإن نفي الشهرة لا يستلزم ثبوت الجهالة ولذلك روى هو نفسه حديثه في كتاب الجهاد { من كتم غالا فهو مثله } عن خبيب بن سليمان وسكت عنه ، وهذا تصحيح منه ، وبهذا تعقبه ابن القطان . ومنها في المستدرك عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته ، ومن رفع دراهم أو دنانير أو تبرا أو فضة لا يعدها لغريم ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة } صححه الحاكم . وأعله الترمذي عن البخاري بأن ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس ، وتردد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الإمام في أنه بالزاي أو الراء بناء على أنه رآه في أصل من نسخ المستدرك بضم الباء فلا يكون فيه دليل على زكاة التجارة ، لكن صرح النووي في تهذيب الأسماء واللغات أنه بالزاي ، وأن بعضهم صحفه بالراء وضم الباء ا هـ وقد رواه الدارقطني من طريقين ، وفي رواية { وفي البز صدقة } قالها بالزاي هكذا مصرحا في الرواية غير أنها ضعفت ( قوله وتشترط نية التجارة ) لأنه لما لم تكن للتجارة خلقة فلا يصير لها إلا بقصدها فيه ، وذلك هو نية التجارة ، فلو اشترى عبدا مثلا للخدمة ناويا بيعه إن وجد ربحا لا زكاة فيه ، ولا بد من كونه مما يصح فيه نية التجارة كما قدمنا ، فلو اشترى أرضا خراجية للتجارة ففيها الخراج لا الزكاة ، ولو كانت عشرية فزرعها حكى صاحب الإيضاح أن عند محمد يجب العشر والزكاة ، وعندهما العشر .

واعلم أن نية التجارة في الأصل تعتبر ثابتة في بدله وإن لم يتحقق شخصها فيه ، [ ص: 219 ] وهو مما يلغز فيقال عرض اشتري من غير نية التجارة يجب عند الحول تقويمه وزكاته وهو ما قوض به مال التجارة فإنه يكون للتجارة وإن لم ينو فيه لأن حكم البدل حكم الأصل ما لم يخرجه بنية عدمها ، وعن هذا لو كان العبد للتجارة فقتله عبد خطأ ودفع به يكون المدفوع للتجارة ، بخلاف ما لو كان القتل عمدا فصولح من القصاص على القاتل لا يكون للتجارة لأنه بدل القصاص لا المقتول على ما عرف من أصلنا أن موجب العمد القصاص علينا لا أحد الأمرين منه ومن الدية

ولو ابتاع مضارب عبدا وثوبا له وطعاما وحمولة وجبت الزكاة في الكل وإن قصد غير التجارة لأنه لا يملك الشراء إلا للتجارة ، بخلاف رب المال حيث لا يزكى الثوب والحمولة : لأنه يملك الشراء لغير التجارة ، كذا في الكافي ، ومحمل عدم تزكية الثوب لرب المال ما دام لم يقصد بيعه معه فإنه ذكر في فتاوى قاضي خان النخاس إذا اشترى دواب للبيع واشترى لها مقاود وجلالا ، فإن كان لا يدفع ذلك مع الدابة إلى المشترى لا زكاة فيها ، وإن كان يدفعها معها وجب فيها ، وكذا العطار إذا اشترى قوارير ( قوله يقومها ) أي المالك في البلد الذي فيه المال حتى لو كان بعث عند التجارة إلى بلد أخرى لحاجة فحال الحول يعتبر قيمته في ذلك البلد ، ولو كان في مفازة تعتبر قيمته في أقرب الأمصار إلى ذلك الموضع ، وكذا في الفتاوى .

ثم قول أبي حنيفة فيه : إنه تعتبر القيمة يوم الوجوب وعندهما يوم الأداء ، والخلاف مبني على أن الواجب عندهما جزء من العين وله ولاية منعها إلى القيمة فتعتبر يوم المنع كما في منع الوديعة وولد المغصوب ، وعنده الواجب أحدهما ابتداء ، ولذا يجبر المصدق على قبولها فيستند إلى وقت ثبوت الخيار وهو وقت الوجوب . ولو كان النصاب مكيلا أو موزونا أو معدودا كان له أن يدفع ربع عشر عينه في الغلاء والرخص اتفاقا ، فإن أحب إعطاء القيمة جرى الخلاف حينئذ ، وكذا إذا استهلك ثم تغير لأن الواجب مثل في الذمة فصار كأن العين قائمة ، ولو كان نقصان السعر لنقص في العين بأن ابتلت الحنطة اعتبر يوم الأداء اتفاقا لأنه هلاك بعض النصاب بعد الحول ، أو كانت الزيادة لزيادتها اعتبر يوم الوجوب اتفاقا لأن الزيادة بعد الحول لا تضم ، نظيره ، اعورت أمة التجارة مثلا بعد الحول فانتقصت قيمتها تعتبر قيمتها يوم الأداء ، أو كانت عوراء فانجلى البياض بعده فازدادت قيمتها اعتبر يوم تمام الحول ( قوله وتفسير الأنفع أن يقومها بما بلغ نصابا ) صرح المصنف باختلاف الرواية وأقوال الصاحبين [ ص: 220 ] في التقويم أنه بالأنفع عينا أو بالتخيير أو بما اشترى به إن كان من النقود وإلا فبالنقد الغالب أو بالنقد الغالب مطلقا . ثم فسر الأنفع الذي هو أحدها بأن يقوم بما يبلغ نصابا ، ومعناه أنه إذا كان بحيث إذا قومها بأحدهما لا تبلغ نصابا والآخر تبلغ تعين عليه التقويم بما يبلغ فأفاد أن باقي الأقوال يخالف هذا وليس كذلك ، بل لا خلاف في تعين الأنفع بهذا المعنى على ما يفيده لفظ النهاية والخلاصة .

قال في النهاية في وجه هذه الرواية : إن المال كان في يد المالك ينتفع به زمانا طويلا فلا بد من اعتبار منفعة الفقراء عند التقويم ، ألا ترى أنه لو كان يقومه بأحد النقدين يتم النصاب وبالآخر لا فإنه يقومه بما يتم به النصاب بالاتفاق فهذا مثله انتهى . وفي الخلاصة قال : إن شاء قومها بالذهب وإن شاء بالفضة . وعن أبي حنيفة أنه يقوم بما هو الأنفع للفقراء .

وعن أبي يوسف يقوم بما اشترى ، هذا إذا كان يتم النصاب بأيهما قوم ، فلو كان يتم بأحدهما دون الآخر قوم بما يصير به نصابا انتهى . فإنما يتجه أن يجعل ما فسر به بعض المراد بالأنفع ، فالمعنى يقوم المالك بالأنفع مطلقا فيتعين ما يبلغ به نصابا دون ما لا يبلغ : فإن بلغ بكل منهما وأحدهما أروج تعين التقويم بالأروج ، وإن استويا رواجا حينئذ يخير المالك كما يشير إليه لفظ الكافي فإنه إذا كان الأنفع بهذا المعنى صح حينئذ أن يقابله القول بالتخيير مطلقا ، والقول المفصل بين أن يكون اشتراه بأحد النقدين فيلزم التقويم به أولا فبالنقد الغالب ، وقد يقال : على كل تقدير لا يصح مقابلته بقول محمد إنه يقوم بالنقد الغالب على كل حال بعد الاتفاق على تعيين ما يبلغ به النصاب ، لأن المتبادر من كون النقد أروج كونه أغلب وأشهر حتى ينصرف المطلق في البيع إليه ، ولا يدفع إلا بأن الأروج ما الناس له أقبل وإن كان الآخر أغلب : أي أكثر ، ويكون سكوته في الخلاصة عن ذكر قول محمد اتفاقا لا قصدا إليه لعدم خلافه ، هذا والمذكور في الأصل المالك بالخيار إن شاء قومها بالدراهم وإن شاء بالدنانير من غير ذكر خلاف ، فلذا أفادت عبارة الخلاصة التي ذكرناها والكافي أن اعتبار الأنفع رواية عن أبي حنيفة ، وجمع بين الروايتين بأن المذكور في الأصل من التخيير هو ما إذا كان التقويم بكل منهما لا يتفاوت ( قوله لأنه أبلغ في معرفة المالية ) لأنه بدله وللبدل حكم المبدل .

وجه قول محمد أن العرف صلح معينا وصار كما لو اشترى بنقد مطلق إلى النقد الغالب ، ولأن التقويم في حق الله يعتبر بالتقويم في حق العباد ، ومتى قومنا المغصوب أو المستهلك نقوم بالنقد الغالب كذا هذا ( قوله فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة ) حتى لو بقي [ ص: 221 ] درهم أو فلس من ثم استفاد قبل فراغ الحول حتى تم على نصاب زكاه ، وشرط زفر كماله من أول الحول إلى آخره ، وبه قال الشافعي في السوائم والنقدين وفي غيرهما اعتبر آخر فقط .

وجه قول زفر أن السبب النصاب الحولي وهو الذي حال عليه الحول ، وهذا فرع بقاء اسمه في تمام الحول ، وهذا وجه قول الشافعي أيضا إلا أنه أخرج مال التجارة للحرج اللازم من إلزام التقويم في كل يوم واعتبارها فيه . قلنا : لم يرد من لفظ الشارع السبب النصاب الحولي بل لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وبظاهره نقول ، وهو إنما يفيد نفي الوجوب قبل الحول لا نفي سببية المال قبله ، ولا تلازم بين انتفاء وجوب الأداء على التراخي وانتفاء السببية ، بل قد تثبت السببية مع انتفاء وجوب الأداء لفقد شرط عمل السبب فيكون حينئذ أصل الوجوب مؤجلا إلى تمام الحول كما في الدين المؤجل ، وإذا كان السبب قائما في أول الحول انعقد الحول حينئذ ولا ينعقد إلا في محل الحكم وهو النصاب ، ثم الحاجة بعد ذلك إلى كماله إنما هو عند تمام الحول لينزل الحكم الآخر وهو وجوب الأداء وكماله فيما بينهما في غير محل الحاجة فلا يشترط وصار كاليمين بطلاقها يشترط قيام الملك عند اليمين لينعقد ، وعند الشرط فقط ليثبت الجزاء لا فيما بين ذلك ، إذ لا حاجة إليه بخلاف ما إذا هلك كله لما ذكر في الكتاب وهو ظاهر ، وجعل السائمة علوفة كهلاك الكل لورود المغير على كل جزء منه ، بخلاف النقصان في الذات . ومن فروع المسألة ما إذا كان له غنم للتجارة تساوي نصابا فماتت قبل الحول فسلخها ودبغ جلدها فتم الحول كان عليه فيها الزكاة إن بلغت نصابا .

ولو كان له عصير للتجارة فتخمر قبل الحول ثم صار خلا يساوي نصابا فتم الحول لا زكاة فيه ، قالوا : لأن في الأول الصوف الذي على الجلد متقوم فيبقى الحول ببقائه . والثاني بطل تقوم الكل بالخمرية فهلك كل المال انتهى إلا أنه يخالف ما روى ابن سماعة عن محمد اشترى عصيرا بمائتي درهم فتخمر بعد أربعة أشهر ، فلما مضت سبعة أشهر أو ثمانية أشهر إلا يوما صار خلا يساوي مائتي درهم فتمت السنة كان عليه الزكاة لأنه عاد للتجارة كما كان




الخدمات العلمية