الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا غرو فإن النسيان من خصائص الإنسانية ، والخطأ والزلل من شعائر الآدمية ، [ ص: 22 ] وأستغفر الله مستعيذا به من حسد يسد باب الإنصاف ، ويرد عن جميل الأوصاف . ألا وإن الحسد حسك من تعلق به هلك ، وكفى للحاسد ذما آخر سورة الفلق ، [ ص: 23 ] في اضطرامه بالقلق ، لله در الحسد ما أعدله ، بدأ بصاحبه فقتله .

وما أنا من كيد الحسود بآمن ولا جاهل يزري ولا يتدبر

ولله در القائل :

هم يحسدوني وشر الناس كلهم     من عاش في الناس يوما غير محسود

[ ص: 24 ] إذ لا يسود سيد بدون ودود يمدح ، وحسود يقدح ، لأن من زرع الإحن ، حصد المحن ; فاللئيم يفضح ، والكريم يصلح

التالي السابق


( قوله : ولا غرو ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة مصدر غرا من باب عدا ، بمعنى عجب بوزن فرح : أي لا عجب . ا هـ . ح : أي من عزة السلامة مما ذكر ( قوله : فإن النسيان ) الفاء تعليلية : أي لأن النسيان الذي هو سبب التلاف المتقدم ط . وعرفه في التحرير بأنه عدم الاستحضار في وقت الحاجة ، قال : فشمل السهو لأن اللغة لا تفرق بينهما . ا هـ . ( قوله : من خصائص الإنسانية ) أي من الأمور الخاصة ، بالحقيقة الإنسانية : أي بأفرادها والياء للنسبة إلى المجرد عنها . روي عن ابن عباس أنه قال : سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي ، وقال الشاعر :

لا تنسين تلك العهود فإنما سميت إنسانا لأنك ناسي

وقال آخر :

نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأول ناس أول الناس

وقيل لأنسه بأمثاله أو بربه تعالى ، قال الشاعر :

وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب

( قوله : والخطأ ) هو أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية كالرمي إلى الصيد فأصاب آدميا تحرير . وفي القاموس : الخطأ ضد الصواب ، ثم قال : والخطأ ما لم يتعمد ( قوله : من شعائر الآدمية ) الشعائر : العلامات كما في القاموس ح . قال في معراج الدراية : وشرعا ما يؤدى من العبادات على سبيل الاشتهار كالأذان [ ص: 22 ] والجماعة والجمعة وصلاة العيد والأضحية . وقيل هي ما جعل علما على طاعة الله تعالى . ا هـ . . قال ط : وإنما عبر بها هنا وفيما تقدم بخصائص لأن النسيان من خصائص الإنسان ، والخطأ والزلل يكون منه ومن غيره حتى من الملائكة كما وقع لإبليس بناء على أنه منهم ولهاروت وماروت على ما قيل ، كقولهم - { أتجعل فيها من يفسد فيها } - وكنظر بعض الملائكة إلى مقامه في العبادة . وأما الجن فذلك أكثر حالهم ( قوله : وأستغفر الله ) أي أطلب منه ستر ذنبي ، وكأنه أتى به لأن ما ذكره قبله فيه نوع تبرئة للنفس وهو مما لا ينبغي ، بل الأولى هضم النفس بالخطأ والنسيان وإن كانا من لوازم الإنسان ( قوله : مستعيذا ) حال من فاعل أستغفر . والعوذ : الالتجاء كالعياذ والمعاذة والتعوذ والاستعاذة . والعوذ : بالتحريك الملجأ كالمعاذ والعياذ قاموس ( قوله : من حسد ) هو تمني زوال نعمة المحسود سواء تمنى انتقالها إليه أم لا . ويطلق على الغبطة مجازا ، وهي تمني مثل تلك النعمة من غير إرادة زوالها عن صاحبها وهو غير مذموم ، بخلاف الأول لأنه يؤدي إلى الاعتراض على الله تعالى ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام " { إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب } " وسماه عليه الصلاة والسلام حالقة الدين لا حالقة الشعر . وقال تعالى - { ومن شر حاسد إذا حسد . } - والحاسد ظالم لنفسه ، حيث أتعب نفسه وأحزنها وأوقعها في الإثم ، ولغيره حيث لم يحب له ما يحب لنفسه ، ولذا قال أبو الطيب : وأظلم أهل الأرض من كان حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب ( قوله : يسد باب الإنصاف ) صفة تأكيدية ، لأن حقيقة الحسد مشعرة بها ، إذ الإنصاف هو الجري على سنن الاعتدال ، والاستقامة على طريق الحق ، وهذا الوصف لا يتأتى وجوده مع الحسد ، والغرض من الإتيان بهذا الوصف التأكيدي النداء على كمال بشاعة الحسد وتقرير ذمه والتنفير عنه ، ولا يخفى ما فيه من الاستعارة المكنية والتخييلية والترشيح ( قوله : ويرد ) أي يصرف صاحبه عن جميل الأوصاف : أي عن الاتصاف بالأوصاف الجميلة أو عن رؤيتها في المحسود فلا يرى الحاسد له جميلا ، لما أن عين السخط تبدي المساويا ، ورد يتعدى بنفسه ويتعدى بعن إلى مفعول ثان وإن لم يذكره في القاموس ، فمن شواهد النحاة قول الشاعر :

أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا فافهم

وهذه الفقرة بمعنى التي قبلها ، وفي الفقرتين من أنواع البديع الترصيع ، وهو أن يكون ما في إحداهما من الألفاظ أو أكثره مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتقفية . والجناس اللاحق وهو اختلاف اللفظين المتجانسين في حرفين ، غير متقاربين . ولزوم ما لا يلزم ، وهو هنا الإتيان بالصاد قبل الألف في الإنصاف والأوصاف ، وقد أتى بهاتين الفقرتين المصنف في المنح وابن الشحنة في شرح الوهبانية ، وسبقهما إلى ذلك ابن مالك في التسهيل ( قوله : ألا ) أداة استفتاح يستفتح بها الكلام ( قول حسك ) بفتحتين : شوك السعدان . والسعدان : نبت من أفضل مراعي الإبل كما في القاموس . ح : وهذا من التشبيه البليغ ، فهو على حذف الأداة ، أو تجري فيه استعارة على طريقة السعد ط : وبين الحسد وحسك الجناس اللاحق أيضا ( قوله : من تعلق به هلك ) يشير إلى وجه الشبه فإن الحسد إذا تعلق بإنسان أهلكه لأنه يأكل حسناته ط . وظاهره أن الضمير في تعلق للحسد لا لمن ، والأنسب إرجاعه لمن ( قوله : وكفى للحاسد إلخ ) كفى فعل ماض ، واللام في للحاسد زائدة في المفعول به على غير قياس وذما تمييز ، وتمييز كفى غير محول عن شيء كما ذكرهالدماميني في شرح التسهيل ، [ ص: 23 ] ومثله : امتلأ الكوز ماء ، وآخر بالرفع فاعل كفى ، ولم يزد الباء في فاعلها لأنه غير لازم بل غالب ، بخلاف زيادتها في فاعل أفعل في التعجب فإنها لازمة ; لكن قال الدماميني : إن كان كفى بمعنى أجزأ وأغنى أو بمعنى وقى لم تزد الباء في فاعلها هكذا قيل ، ولم أر من أفصح عن معنى كفى التي تغلب زيادة الباء في فاعلها . وفي كلام بعضهم ما يشير إلى أنها قاصرة لا متعدية ، وفي كلام بعضهم خلاف ذلك ا هـ فافهم . ووجه الذم أنه تعالى أسند إليه الشر وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه ، وأي ذم أعظم من ذلك ( قوله : في اضطرامه ) متعلق بكفى أو بمحذوف حال من الحاسد ، أو في للتعليل كما في حديث " { إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها } " أو بمعنى مع كما في - { ادخلوا في أمم } - والاضطرام كما قال ح عن جامع اللغة : اشتعال النار فيما يسرع اشتعالها فيه . قال ط : شبه شدة تحسره لفوات غرضه بالاشتعال ( قوله : بالقلق ) هو بالتحريك : الانزعاج قاموس ( قوله : لله در الحسد ) في الرضي : الدر في الأصل ما يدر : أي ما ينزل من الضرع من اللبن ومن الغيم من المطر ، وهو هنا كناية عن فعل الممدوح الصادر عنه ; وإنما نسب فعله لله تعالى قصدا للتعجب منه ، لأن الله تعالى منشئ العجائب ، وكل شيء عظيم يريدون التعجب منه ينسبونه إليه تعالى ويضيفونه إليه ; فمعنى لله دره ما أعجب فعله ، وفي القاموس : وقولهم ولله دره : أي عمله كذا في حواشي الجامي للمولى عصام ، ثم قال : فقول الشرح يعني الجامي لله خيره بجعل الدر كناية عن الخير لا يوافق تحقيق اللغة . ا هـ . ابن عبد الرزاق ( قوله : ما أعدله إلخ ) تعجب ثان متضمن لبيان منشإ التعجب . وفي الرسالة القشيرية قال معاوية رضي الله عنه : ليس في خلال الشر خلة أعدل من الحسد تقتل الحاسد غما قبل المحسود ا هـ لكن شرطه ما قال الشاعر :

دع الحسود وما يلقاه من كمده كفاك منه لهيب النار في كبده
إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده

وقال آخر وقد أجاد :

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك يقتله
النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

( قوله : وما أنا إلخ ) البيت من المنظومة الوهبانية ، قال شارحها العلامة عبد البر بن الشحنة : الكيد الخديعة والمكر ، والحسود فعول من الحسد فيه مبالغة في معنى الحاسد . والآمن : المطمئن ، ولا جاهل عطف على الحسود ، يعني ولا من كيد جاهل ويزري بفتح التحتية من زرى عليه : إذا عابه واستهزأ به ، وأنكر عليه ولم يعده شيئا أو تهاون به ، ويجوز ضمها من أزرى . قال في القاموس : لكنه قيل وتزري وأزرى بأخيه : أدخل عليه عيبا أو أمرا يريد أن يلبس عليه ولا يتدبر عطف عليه : أي لا يتفكر في عواقب الأمور . وسبب هذا البيت أنه ابتلي بما ابتليت به من حسد الحاسدين وكيد المعاندين ، والله المسئول أن يجعل كيدهم في نحرهم ، فبعضهم استكثره عليه والبعض قال إنه مسبوق إليه ا هـ ملخصا ( قوله : هم يحسدوني ) أصله يحسدونني حذفت إحدى [ ص: 24 ] النونين تخفيفا . ا هـ . ح . وشر أفعل تفضيل حذفت همزته لكثرة الاستعمال كما حذفت من خير وإثباتها لغة قليلة أو رديئة كما في القاموس ، وكلهم بالجر تأكيد للناس لإفادة الشمول . ولا يقال الكافر شر ممن لم يحسد فكيف يكون من لم يحسد شرا منه ؟ لأنا نقول هو من جملة من لم يحسد ، بل ليس له ما يحسد عليه لقوله تعالى - { أيحسبون أنما نمدهم به } - الآية فافهم ، فافهم . وفي الناس بمعنى معهم ، ويوما ظرف لعاش ، وغيره بالنصب حال ، وقد أتى الشارح بهذا البيت تبعا لابن الشحنة تسلية للنفس ، فإن الحسد لا يكون إلا لذوي الكمال المتصفين بأكمل الخصال ، وفي معناه ما ينسب إلى علي كرم الله وجهه :

إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام بي وبهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظا بما يجد

( قوله : إذ لا يسود ) أي لا يصير ذا سؤدد وفخار ، وأصله يسود كينصر نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فسكنت الواو ، وهذا علة لمفهوم وشر الناس ، لأنه إذا كان شر الناس من لم يحسد نتج أن خيرهم من يحسد ، وإنما كان ذلك سببا في سيادته ، لأن المدح يترتب عليه الرياسة والسؤدد ، والقدح فيه يترتب عليه الحلم والتحمل والصفح وذلك في السيادة أيضا . ا هـ . ط . قلت : والحسود أيضا سبب في السيادة من حيث إنه سبب لنشر ما انطوى من الفضائل كما قال القائل :

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود

( قوله : سيد ) أصله سيود اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء ، قيل إنه لا يطلق إلا على الله تعالى ، لما روي " { أنه عليه الصلاة والسلام لما قالوا له يا سيدنا ، قال : إنما السيد الله } " وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال " { أنا سيد ولد آدم } " وقال تعالى - { وسيدا وحصورا } - وقيل لا يطلق عليه تعالى وعزي إلى مالك ; وقيل يطلق عليه تعالى معرفا وعلى غيره منكرا . والصحيح جوازه مطلقا ، وهو في حقه تعالى بمعنى العظيم المحتاج إليه ، وفي غيره بمعنى الشريف الفاضل الرئيس وتمامه في حاشية الحموي ( قوله : بدون ) أي بغير ، وهو أحد إطلاقات لها ، وتأتي بمعنى المكان الأدنى وهو الأصل فيها ط ( قوله : ودود ) هو كثير الحب قاموس ( قوله : وحسود يقدح ) أي يطعن ، ولا يخفى ما بين ودود وحسود من الطباق ، وبين يمدح ويقدح من الجناس اللاحق ولزوم ما لا يلزم وما في ذلك من الترصيع ( قوله : لأن من زرع ) تعليل لما استلزمه الكلام السابق ، لأن قدح الحسود إذا كان سببا في زيادة المحسود الموجبة لكمده كان زرعه الحسد منتجا له المحن والبلايا . والإحن : جمع إحنة بالكسر فيهما ، وهي الحقد كما في القاموس . ا هـ . ح ، ويحتمل أنه تعليل لقوله سابقا ألا وإن الحسد حسك ، من تعلق به هلك ، فالمحصود الهلاك الموجود عند التعلق ط وتشبيه الحقد بما يزرع استعارة بالكناية وإثبات الزرع تخييل ، وذكر الحصد ترشيح ( قوله : فاللئيم يفضح ) من اللؤم بالضم ضد الكرم ، يقال لؤم ككرم لؤما فهو لئيم جمعه لئام ولؤماء ، ويقال فضحه كمنعه : كشف مساويه ، والإصلاح ضد الإفساد قاموس ، وهذا مرتبط بقوله إذ لا يسود سيد إلخ ; فاللئيم هو الحسود والكريم هو الودود ، وفيه لف ونشر مشوش أو بقوله ومأمولي من الناظر فيه إلخ ، ولو قال والكريم يصفح أو يسمح لكان أوضح




الخدمات العلمية