الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وتثليث الغسل ) المستوعب ; ولا عبرة للغرفات ، ولو اكتفى بمرة إن اعتاده أثم ، وإلا لا ، ولو زاد لطمأنينة القلب [ ص: 119 ] أو لقصد الوضوء على الوضوء لا بأس به ، وحديث " فقد تعدى " محمول على الاعتقاد ، [ ص: 120 ] ولعل كراهة تكراره في مجلس تنزيهية ، بل في القهستاني معزيا للجواهر الإسراف في الماء الجاري جائز لأنه غير مضيع ، فتأمل .

التالي السابق


( قوله : وتثليث الغسل ) أي جعله ثلاثا ، فمجموع الثانية والثالثة سنة واحدة ، قال في الفتح : وهو الحق ، لكن صحح في السراج أنهما سنتان مؤكدتان . قال في النهر : وهو المناسب لاستدلالهم على السنية " بأنه عليه الصلاة والسلام { لما أن توضأ مرتين مرتين قال : هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرتين ، ولما أن توضأ ثلاثا قال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم } فجعل للثانية جزاء مستقلا ، وهذا يؤذن باستقلالها لا أنها جزء سنة حتى لا يثاب عليها وحدها . ا هـ . وقيد بالغسل إذ لا يطلب تثليث المسح كما يأتي ( قوله : المستوعب ) فلو غسل في المرة الأولى وبقي موضع يابس ، ثم في المرة الثانية أصاب الماء بعضه ، ثم في الثالثة أصاب الجميع لا يكون غسلا للأعضاء ثلاثا حلية عن فتاوى الحجة ( قوله : ولا عبرة للغرفات ) أي الغير المستوعبة . قال في البحر : والسنة تكرار الغسلات المستوعبات لا الغرفات . ا هـ .

بقي إذا لم يستوعب إلا في الثالثة كما قلنا ، هل يحسب الكل غسلة واحدة فيعيد الغسل مرتين ، أو يعيد غسل ما لم يصبه الماء فقط ، والمتبادر من عبارة البحر الأول ، وليحرر ( قوله : وإن اعتاده أثم ) قال في النهر : ولو اقتصر على الأولى ففي إثمه قولان ، قيل : يأثم لترك السنة المشهورة ، وقيل : لا لأنه قد أتى بما أمر به كذا في السراج واختار في الخلاصة أنه إن اعتاده أثم وإلا لا ، وينبغي أن يكون هذا القول محمل القولين . ا هـ .

أقول : لكن في الخلاصة لم يصرح بالإثم ، وإنما قال : إن اعتاده كره وهكذا نقله في البحر ، نعم هو موافق لما قدمناه عن شرح التحرير من حمل اللوم والتضليل لترك السنة المؤكدة على الترك مع الإصرار بلا عذر وقدمنا أيضا تصريح صاحب البحر بأن الظاهر من كلام أهل المذهب أن الإثم منوط بترك الواجب والسنة المؤكدة على الصحيح ، ولا يخفى أن التثليث حيث كان سنة مؤكدة وأصر على تركه يأثم ، وإن كان يعتقده سنة . وأما حملهم الوعيد في الحديث على عدم رؤية الثلاث سنة كما يأتي فذلك في الترك ولو مرة بدليل ما قلنا . وبه اندفع ما في البحر من ترجيح القول بعدم الإثم لو اقتصر على مرة بأنه لو أثم بنفس الترك لما احتيج إلى هذا الحمل ا هـ وأقره في النهر وغيره ، وذلك لأنه مع عدم الإصرار محتاج إليه فتدبر ( قوله : وإلا ) أي وإن لم يعتده بأن فعله أحيانا أو فعله لعزة الماء أو لعذر البرد أو لحاجة لا يكره خلاصة ( قوله : ولو زاد إلخ ) أشار إلى أن الزيادة مثل النقصان في المنع عنها بلا عذر ( قوله : لطمأنينة القلب ) لأنه أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، وينبغي أن يقيد هذا بغير الموسوس ، [ ص: 119 ] أما هو فيلزمه قطع مادة الوسواس عنه وعدم التفاته إلى التشكيك ; لأنه فعل الشيطان وقد أمرنا بمعاداته ومخالفته رحمتي ، ويؤيده ما سنذكره قبيل فروض الغسل عن التتارخانية أنه لو شك في بعض وضوئه أعاده إلا إذا كان بعد الفراغ منه ، أو كان الشك عادة له فإنه لا يعيده ولو قبل الفراغ قطعا للوسوسة عنه . ا هـ . مطلب في الوضوء على الوضوء

( قوله : أو لقصد الوضوء على الوضوء ) أي بعد الفراغ من الأول بحر . وفي التتارخانية عن الناطفي : لو زاد على الثلاث فهو بدعة ، وهذا إذا لم يفرغ من الوضوء ; أما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء فلا يكره بالاتفاق ا هـ ومثله في الخلاصة .

وعارض في البحر دعوى الاتفاق بما في السراج من أنه مكروه في مجلس واحد : وأجاب في النهر بأن ما مر فيما إذا أعاده مرة واحدة ، وما في السراج فيما إذا كرره مرارا ، ولفظه في السراج : لو تكرر الوضوء في مجلس واحد مرارا لم يستحب ، بل يكره لما فيه من الإسراف فتدبر ا هـ .

قلت : لكن يرد ما في شرح المنية الكبير حيث قال : وفيه إشكال لإطباقهم على أن الوضوء عبادة غير مقصودة لذاتها فإذا لم يؤد به عمل مما هو المقصود من شرعيته كالصلاة وسجدة التلاوة ومس المصحف ينبغي أن لا يشرع تكراره قربة ; لكونه غير مقصود لذاته فيكون إسرافا محضا ، وقد قالوا في السجدة لما لم تكن مقصودة : لم يشرع التقرب بها مستقلة وكانت مكروهة ، وهذا أولى . ا هـ .

أقول : ويؤيده ما قاله ابن العماد في هديته . قال في شرح المصابيح : وإنما يستحب الوضوء إذا صلى بالوضوء الأول صلاة ، كذا في الشرعة والقنية . ا هـ . وكذا ما قاله المناوي في شرح الجامع الصغير للسيوطي عند حديث { من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات } من أن المراد بالطهر الوضوء الذي صلى به فرضا أو نفلا كما بينه فعل راوي الخبر وهو ابن عمر ، فمن لم يصل به شيئا لا يسن له تجديده . ا هـ . ومقتضى هذا كراهته ، وإن تبدل المجلس ما لم يؤد به صلاة أو نحوها لكن ذكر سيدي عبد الغني النابلسي أن المفهوم من إطلاق الحديث مشروعيته ولو بلا فصل بصلاة أو مجلس آخر ، ولا إسراف فيما هو مشروع ، أما لو كرره ثالثا أو رابعا فيشترط لمشروعيته الفصل بما ذكر ، وإلا كان إسرافا محضا ا هـ فتأمل . مطلب كلمة لا بأس قد تستعمل في المندوب

( قوله : لا بأس به ) لأنه نور على نور وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه معراج ، وفي هذا التعليل لف ونشر مشوش ، وفيه إشارة إلى أن ذلك مندوب ، فكلمة لا بأس وإن كان الغالب استعمالها فيما تركه أولى ، لكنها قد تستعمل في المندوب كما صرح به في البحر من الجنائز والجهاد ، فافهم . ( قوله : وحديث فقد تعدى إلخ ) جواب عما يرد على قوله لا بأس به ، وقد تقدم الحديث في عبارة النهر : قال في البحر : واختلف في معنى قوله : عليه الصلاة والسلام { فمن زاد على هذا } على أقوال ؟ فقيل : على الحد المحدود ، وهو مردود بقوله عليه الصلاة والسلام { من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل } والحديث في المصابيح ، وإطالة الغرة تكون بالزيادة على الحد المحدود ، وقيل : على أعضاء الوضوء ، وقيل : الزيادة على العدد والنقص عنه . والصحيح أنه محمول على الاعتقاد دون نفس [ ص: 120 ] الفعل ، حتى لو زاد أو نقص واعتقد أن الثلاث سنة لا يلحقه الوعيد كذا في البدائع ، واقتصر عليه في الهداية ; وفي الحديث لف ونشر ; لأن التعدي يرجع إلى الزيادة والظلم إلى النقصان . ا هـ .

أقول : وصريح ما في البدائع أنه لا كراهة في الزيادة والنقصان مع اعتقاد سنية الثلاث ، ولذا ذكر في البدائع أيضا أن ترك الإسراف والتقتير مندوب ، ويوافقه ما في التتارخانية لا يكره إلا أن يرى السنة في الزيادة ، وهو مخالف لما مر ، من أنه لو اكتفى بمرة واعتاده أثم ولما سيأتي بعد ورقة من أن الإسراف مكروه تحريما ومنه الزيادة على الثلاث ; ولهذا فرع في الفتح وغيره على القول بحمل الوعيد على اعتقاد سنية الزيادة أو النقص بقوله : " فلو زاد " لقصد الوضوء على الوضوء ، أو لطمأنينة القلب عند الشك ، أو نقص لحاجة لا بأس به ، فإن مفاد هذا التفريع أنه لو زاد أو نقص بلا غرض صحيح يكره وإن اعتقد سنية الثلاث ، وبه صرح في الحلية فقال : وهل لو زاد على الثلاث من غير قصد لما ذكر يكره ؟ الظاهر نعم ; لأنه إسراف لكن لو كان قصده بالزيادة الوضوء على الوضوء ، إنما تنتفي الكراهة إذا كان بعد الفراغ من الأول وصلى به أو تبدل المجلس على ما مر وإلا فلا ، وعلى كل فيحتاج إلى التوفيق بين ما في البدائع وغيره ، ويمكن التوفيق بما قدمناه من أنه إذا فعل ذلك مرة لا يكره ما لم يعتقده سنة ، وإن اعتاده وأصر عليه يكره وإن اعتقد سنية الثلاث إلا إذا كان لغرض صحيح ، هذا ما ظهر لفهمي القاصر فتدبره ( قوله : ولعل إلخ ) جواب عما أورده في البحر من أن قولهم : لو نوى الوضوء على الوضوء لا بأس به مخالف لما في السراج من أن تكراره في مجلس مكروه ، وحمله على اختلاف المجلس بعيد .

وحاصل الجواب حمل الكراهة على التنزيهية ، فلا تنافي قولهم لا بأس به لأن غالب استعمالها فيما تركه أولى . أقول : وفي الجواب نظر ، لما قدمناه من تعليلهم بأنه نور على نور ، فهي مستعملة في المندوب لا فيما تركه أولى فالأحسن الجواب بما قدمناه عن النهر من أن ( المكروه تكراره في مجلس إلخ ) ترق في الجواب ، وهو مخالف لما سيأتي من أن الإسراف مكروه ولو بماء النهر ; ولذا قال : تأمل ، ويأتي تمام الكلام عليه . مطلب قد يطلق الجائز على ما لا يمتنع شرعا فيشمل المكروه

وقد يقال : أطلق الجائز وأراد به ما يعم المكروه . ففي الحلية عن أصول ابن الحاجب أنه قد يطلق ويراد به ما لا يمتنع شرعا وهو يشمل المباح والمكروه والمندوب والواجب ا هـ لكن الظاهر أن المراد المكروه تنزيها لأن المكروه تحريما ممتنع شرعا منعا لازما . مطلب في تصريف قولهم معزيا

( قوله : معزيا ) يقال : عزوته وعزيته لغة إذا نسبته صحاح ، فهو اسم مفعول من اليائي اللام ، أصله معزوي ، فقلبت الواو ياء ثم أدغمت ، ويجوز أخذه من الواو أيضا ، فإن القياس فيه معزو مثل مغزو ، لكنه قد تقلب الواوان فيه ياءين ، وهو فصيح كما نص عليه التفتازاني في شرح التصريف .




الخدمات العلمية