الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2859 225 - حدثنا علي بن مسلم قال : حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة قال : حدثني أبي ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع ليقتلوه ، فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم ، قال : فدخلت في مربط دواب لهم ، قال : وأغلقوا باب الحصن ، ثم إنهم فقدوا حمارا لهم فخرجوا يطلبونه ، فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم ، فوجدوا الحمار فدخلوا ودخلت ، وأغلقوا باب الحصن ليلا ، فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها ، فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن ثم دخلت عليه ، فقلت : يا أبا رافع فأجابني ، فتعمدت الصوت فضربته فصاح ، فخرجت ثم جئت ، ثم رجعت كأني مغيث فقلت : [ ص: 271 ] يا أبا رافع ، وغيرت صوتي ، فقال : ما لك لأمك الويل ، قلت : ما شأنك ؟ قال : لا أدري من دخل علي فضربني ، قال : فوضعت سيفي في بطنه ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم ، ثم خرجت وأنا دهش ، فأتيت سلما لهم لأنزل منه فوقعت فوثئت رجلي ، فخرجت إلى أصحابي فقلت : ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية ، فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز ، قال : فقمت وما بي قلبة حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل : لا مطابقة بين الحديث والترجمة إلا إذا أريد بالنائم المضطجع ، وقيل : هذا قتل يقظان نبه من نومه ، وقيل : هذا حكمه حكم النائم ; لأنه لما أجاب الرجل كان في خيال النوم ولهذا لم يتحرك من موضعه ولا قام من مضجعه فكان حكمه حكم النائم ، وهذا الوجه أقرب مع أنه جاء فيه فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته فقتله وهو نائم .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله وهم خمسة : الأول : علي بن مسلم بكسر اللام الخفيفة ابن سعيد أبو الحسن الطوسي ، سكن بغداد ، وهو من أفراده ، الثاني : يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة واسمه ميمون الهمداني الكوفي القاضي ، الثالث : أبو زكرياء الهمداني الكوفي الأعمى ، الرابع : أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي ، الخامس : البراء بن عازب الأنصاري الخزرجي الأوسي رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا مختصرا هنا عن عبد الله بن محمد ، وفي المغازي أيضا عن إسحاق بن نصر .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه ، قوله : " رهطا من الأنصار " الرهط الجماعة من الرجال ما بين الثلاثة إلى التسعة ولا يكون فيهم امرأة ، وهم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة والأسود بن خزاعي ومسعود بن سنان وعبد الله بن عقبة ، وكان معهم أيضا أسعد بن حرام حليف بني سوادة ، قال السهيلي : ولا نعرف أحدا ذكره غيره ، قلت : ذكره الحاكم أيضا في الإكليل عن الزهري ، وعند الكلبي : عبد الله بن أنيس هو ابن سعد بن حرام ، فإن قلت : ما كان الموجب لبعثه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرهط إلى أبي رافع ، ومتى كان هذا البعث ، قلت : أما الموجب لذلك فما ذكره ابن إسحاق ، فقال : لما انقضى أمر الخندق وأمر بني قريظة ، وكان أبو رافع ممن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم فخرجوا .

                                                                                                                                                                                  وفي طبقات ابن سعد : كان أبو رافع قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم من الجعل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين ذكرناهم ، وأما وقت هذا البعث فقال ابن سعد : كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة ، وقيل : في ذي الحجة سنة خمس ، وفي الإكليل : كان بعد بدر ، وقيل : بعد غزوة السويق ، وقال النيسابوري : قبل دومة الجندل ، وقال ابن حبان : بعد بدر الموعد آخر سنة أربع ، وقال أبو معشر : بعد غزوة ذات الرقاع وقبل سرية عبد الله بن رواحة ، وقال الزهري : هو بعد كعب بن الأشرف ، قوله : " إلى أبي رافع " واسمه عبد الله ، ويقال سلام بن أبي الحقيق بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون الياء آخر الحروف اليهودي ، قوله : " فانطلق رجل منهم " هو عبد الله بن عتيك بفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة من فوق الأنصاري من بني عمرو بن عوف ، استشهد يوم اليمامة ، قال أبو عمر : وأظنه وأخاه جابر بن عتيك شهدا بدرا ، ولم يختلف أن عبد الله شهد أحدا ، وقال ابن الكلبي وأبوه : إنه شهد صفين مع علي رضي الله تعالى عنه ، فإن كان هذا فلم يقتل يوم اليمامة ، قوله : " فدخل حصنهم " يقال إنه حصن بأرض الحجاز والظاهر أنه خيبر ، قوله : " أريهم " بضم الهمزة وكسر الراء من الإراءة ، قوله : " في كوة " بضم الكاف وفتحها وهي الثقب في جدار البيت ، قوله : " ففتحت باب الحصن ثم دخلت " فإن قيل : كان هو داخل الحصن فما معناه ، أجيب بأنه كان للحصن مغاليق وطبقات ، قوله : " فتعمدت الصوت " أي اعتمدت جهة الصوت إذ كان الموضع مظلما ، قوله : " ما لك " كلمة ما للاستفهام مبتدأ ولك خبره ، قوله : " لأمك الويل " القياس أن يقال على أمك الويل ، وإنما ذكر اللام لإرادة الاختصاص بهم ، قوله : " تحاملت عليه " أي تكلفته على مشقة ، قوله : " حتى قرع العظم " أي أصابه ، ومنه قرعته الداهية أي أصابته ، وأصل القرع الضرب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وأنا دهش " جملة اسمية وقعت حالا [ ص: 272 ] ودهش بفتح الدال وكسر الهاء صفة مشبهة أي متحير مدهوش ، قوله : " فوثئت " بضم الواو وكسر الثاء المثلثة من الوثأ وهو أن يصيب العظم وصم لا يبلغ الكسر ، وذكر ثعلب هذه المادة في باب المهموز من الفعل ، يقال : وثئت يده فهي موثوءة ووثأتها أنا ، وأما ابن فارس فقال : وقد يهمز ، وقال الخطابي : والواو مضمومة على بناء الفعل لما لم يسم فاعله ، قوله : " ما أنا ببارح " أي بذاهب ، قوله : " الناعية " بالنون وكسر العين المهملة على وزن فاعلة من النعي وهو الإخبار بالموت ، ويروى " الواعية " أي الصارخة التي تندب القتيل ، والوعي الصوت ، قال صاحب العين : الوعي جلبة وأصوات الكلاب في الصيد ، وقال : الداعية التي تدعو بالويل والثبور وهي النائحة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " سمعت نعايا أبي رافع " كذا الرواية وصوابه نعاي بغير ألف ، كذا تقوله النحاة ، وقال الخطابي : هكذا يروى : " نعايا أبي رافع " وحقه أن يقال نعاي أبي رافع أي انعوا أبا رافع ، كقولهم دراك بمعنى أدركوا ، وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب في الأفعال الثلاثية كلها أن يقال فيها فعال بمعنى افعل نحو حذار ومناع ونزال كما تقول انزل واحذر وامنع ، وقال الأصمعي : كانت العرب إذا مات فيهم ميت ركب راكب فرسا وجعل يسير في الناس ويقول نعاء فلانا أي أنعه وأظهر خبر وفاته ، قال أبو نصر : وهي مبنية على الكسر ، وقال الداودي : نعايا جمع ناعية ، والأظهر أنه جمع نعي مثل صفايا جمع صفي ، وفي المطالع نعايا أبي رافع هو جمع نعي أي أصوات المنادين بنعيه من الرجال والنساء ، وقد يحتمل أن تكون هذه الكلمة كما جاء في الخبر الآخر في حديث شداد بن أوس نعايا العرب ، كذا في الحديث ، قال الأصمعي : إنما هو يا نعاء العرب أي يا هؤلاء انعوا العرب ، وقال الكرماني : يحتمل أن نعاء من أسماء الأفعال وقد جمع على نحو خطايا شاذا ، ويحتمل أن يكون جمع نعي أو ناعية ، قلت : هو من أسماء الأفعال بلا احتمال ; لأنه بمعنى انعوا كما ذكرنا ، وقوله : أو ناعية ، نقله من كلام الداودي ، وفيه نظر لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما بي قلبة " بالقاف واللام والباء الموحدة المفتوحات ، أي ما بي علة ، قال الفراء : أصله من القلاب وهو داء يصيب الإبل ، وزاد الأصمعي : تموت من يومها به فقيل ذلك لكل سالم ليس به علة ، وقال ابن الأعرابي : معناه ليست به علة يقلب لها فينظر إليه ، وأصل ذلك في الدواب ، وعن الأصمعي : معناه ما به داء وهو من القلاب داء يأخذ الإبل في رؤوسها فيقلبها إلى فوق ، وقال الفراء : ما به علة يخشى عليه فيها ، وهو من قولهم قلب الرجل إذا أصابه وجع في قلبه وليس يكاد يفلت منه ، وقال غيره : ما به شيء يقلقه فيقلب منه على فراشه ، وقال النحاس : حكى عبد الله بن مسلم أن بعضهم يقول في هذا أي ما به حول ثم استعير من هذا الأصل لكل سالم ليست به آفة ، قوله : " فأخبرناه " أي أخبرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بموت أبي رافع .

                                                                                                                                                                                  ثم إن الذي يظهر من هذا الحديث أن الذي قتله هو عبد الله بن عتيك ، وقال ابن سعد وغيره : لما ذهب الجماعة المذكورون إلى خيبر كمنوا ، فلما هدأت الرجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له وقدموا عبد الله بن عتيك ; لأنه كان يرطن باليهودية واستفتح وقال : جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت ، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية ، فعلوه بأسيافهم ، قال ابن أنس : وكنت رجلا أعشى لا أبصر فأتكئ بسيفي على بطنه حتى سمعت حسه في الفراش وعرفت أنه قضى ، وجعل القوم يضربونه جميعا ثم نزلوا وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار ، واختبأ القوم في بعض مياه خيبر ، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يجدوهم فرجعوا ، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب ثم خرجوا إلى المدينة وكلهم يدعي قتله ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيافهم فنظر إليها فإذا أثر الطعام في ذبابة سيف ابن أنيس ، فقال : هذا قتله .

                                                                                                                                                                                  وفي كتاب دلائل النبوة : قتله ابن عتيك ، ودفف عليه ابن أنيس ، وفي الإكليل ، عن ابن أنيس قال : ظهرت أنا وابن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط ، فاستأذن ابن عتيك ، فقالت امرأة ابن أبي الحقيق : إن هذا لصوت ابن عتيك ، فقال ابن أبي الحقيق : ثكلتك أمك ابن عتيك بيثرب أنى هو هذه الساعة ، افتحي فإن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة أحدا ، ففتحت فدخلت أنا وابن عتيك ، فقال لابن عتيك : دونك ، فشهرت عليها السيف ، فأخذ ابن أبي الحقيق وسادة فاتقاني بها ، فجعلت أريد أن أضربه فلا أستطيع ، فوخزته بالسيف وخزا ثم خرجت إلى ابن أنيس ، فقال : أقتلته ؟ قلت : نعم .

                                                                                                                                                                                  وقال الواقدي : كانت أم ابن عتيك التي أرضعته يهودية ، [ ص: 273 ] بخيبر ، فأرسل إليها يعلمها بمكانه ، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرا لينا وخبزا ، ثم قال لها : يا أماه أما لو أمسينا لبتنا عندك فأدخلينا خيبر ، فقالت : وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل ، ومن تريد فيها ، قال : أبا رافع ، قالت : لا تقدر عليه ، ثم قالت : ادخلوا علي ليلا ، فدخلوا عليها ليلا لما نام أهل خيبر في حمر الناس ، وأعلمتهم أن أهل خيبر لا يغلقوا عليهم أبوابهم فرقا أن يتطرقهم ضيف ، فلما هدأت الرجل قالت : انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع ، فقولوا إنا جئنا له بهدية ، فإنهم سيفتحون لكم ، فلما انتهوا إليه استهموا عليه فخرج سهم ابن أنيس .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه جواز الاغتيال على من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أو مال أو رأي ، وكان أبو رافع يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤلب الناس عليه ، وفيه جواز التجسس على المشركين وطلب غرتهم ، وفيه الاغتيال بالحرب والإيهام بالقول ، وفيه الأخذ بالشدة في الحرب والتعرض لعدد كثير من المشركين ، وفيه الإلقاء إلى التهلكة باليد في سبيل الله ، وأما الذي نهي عنه من ذلك فهو في الإنفاق في سبيل الله لئلا تخلى يده من المال فيموت جوعا وضياعا ، وفيه الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء كحكم هذا الرجل بالناعية .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية