الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  في كثير من النسخ ذكر هذه الآيات الثلاث، وهي في المائدة، الأولى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (الثانية) قوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (الثالثة) قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون .

                                                                                                                                                                                  وفي بعض النسخ: وقول الله تعالى: حرمت عليكم الميتة إلى قوله: فلا تخشوهم واخشون وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد قال بعض الشراح: كذا لأبي ذر، وقدم وأخر في رواية كريمة والأصيلي، وزاد بعد قوله: تناله أيديكم ورماحكم الآية إلى قوله: عذاب أليم وعند النسفي في قوله: أحلت لكم بهيمة الأنعام الآيتين، وكذا لأبي الوقت لكن قال إلى قوله: فلا تخشوهم واخشون وفرقهما في رواية كريمة والأصيلي.

                                                                                                                                                                                  قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الآية، نزلت في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيتمكنون من صيدها أخذا بالأيدي وطعنا بالرماح جهرا وسرا لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، وقال الوالبي عن ابن عباس: ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه. قال مجاهد: "تناله أيديكم" يعني صغار الصيد وفراخه "ورماحكم" كباره.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فمن اعتدى بعد ذلك" أي بعد هذا الإعلام والإنذار "فله عذاب أليم" أي لمخالفة أمر الله وشرعه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " هي الإبل والبقر والغنم، قاله الحسن وقتادة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من قوله: "أحلت لكم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال: "إلا ما ذكيتم" وما ذبح على النصب منها؛ فإنه حرام لا يمكن استدراكه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " غير محلي الصيد " نصب على الحال، والمراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، وما يعم الوحشي كالظباء ونحوه، فاستثنى من الإنس ما تقدم واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام، والحرم جمع حرام.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن الله يحكم ما يريد " يعني أن الله حكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حرمت عليكم الميتة " استثنى منها السمك والجراد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والدم" يعني المسفوح.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولحم الخنزير" سواء كان إنسيا أو وحشيا، وقوله: "واللحم" يعم جميع أجزائه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وما أهل لغير الله به" أي ما ذبح [ ص: 91 ] على اسم غير الله من صنم أو وثن أو طاغوت أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنه حرام بالإجماع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والمنخنقة" هي التي تموت بالخنق إما قصدا أو اتفاقا بأن تتخبل في وثاقها فتموت فهي حرام.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والموقوذة" هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدود حتى تموت، وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتى إذا ماتت أكلوها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والمتردية" هي التي تقع من شاهق فتموت بذلك، فتحرم، وعن ابن عباس أنها التي تسقط من جبل، وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والنطيحة" هي التي تموت بسبب نطح غيرها لها، وإن جرحها القرن وسال منها الدم ولو من مذبحها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وما أكل السبع" أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام، وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها فهي حرام بالإجماع.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إلا ما ذكيتم " عائد على ما يمكن عوده عليه مما اتفق سبب موته وأمكن تداركه وفيه حياة مستقرة، وعن ابن عباس: إلا ما ذبحتم من هذه الأشياء وفيه روح فكلوه فهو ذكي، وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي، وروي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد أن المذكاة متى تحركت حركة تدل على بقاء الروح فيها بعد الذبح فهي حلال، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وما ذبح على النصب " قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة. قال ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصبا كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها ويلطخون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن تستقسموا بالأزلام " أي وحرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام وهو جمع زلم بفتح الزاي، وهي عبارة عن أقداح ثلاثة على أحدها مكتوب "افعل" وعلى الآخر "لا تفعل" والثالث "غفل" ليس عليه شيء، وقيل: مكتوب على الواحد "أمرني ربي" وعلى الآخر "نهاني ربي" والثالث "غفل" ليس عليه شيء، فإذا جاء السهم الآمر فعله أو الناهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد الاستقسام.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ذلكم فسق" أي تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم، وقيل: يئسوا من مشابهة المسلمين بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله، ولهذا أمر الله عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحدا إلا الله تعالى، فقال: " فلا تخشوهم واخشون " حتى أنصركم عليهم وأظفركم بهم وأشفي صدوركم منهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية