الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وقول الله بالجر عطفا على السحر المضاف إليه لفظ "باب" والتقدير (باب في بيان السحر، وفي بيان قول الله عز وجل) وذكر هذه الآيات الكريمة للاستدلال بها على تحقق وجود السحر وإثباته، وعلى بيان حرمته، أما الآية الأولى وهي قوله تعالى: ولكن الشياطين كفروا ففي رواية الأكثرين: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية، فهذا المقدار هو المذكور، وفي رواية كريمة ساقها إلى قوله: من خلاق ففي هذه الآية بيان أصل السحر الذي تعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليهما السلام، ومما أنزل الله تعالى على هاروت وماروت بأرض بابل، وهذا متقدم على الأول; لأن قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكان السحر أيضا فاشيا في زمن فرعون.

                                                                                                                                                                                  وملخص ما ذكر في هذه الآية الكريمة ما قاله السدي في قوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي: على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع، فيسمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، وزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان عليه الصلاة والسلام لجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الناس يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان جاء شيطان في صورة إنسان إلى نفر من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا ووجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والجن والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، فاتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم - خاصموه بها، فذلك قوله تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فقوله: "الناس" مفعول أول "والسحر" مفعول ثان، والجملة حال من فاعل "كفروا" أي: كفروا معلمين، وقيل: هي بدل من كفروا.

                                                                                                                                                                                  وقوله عز وجل: وما أنزل على الملكين كلمة ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، تقديره: يعلمون الناس السحر والمنزل على الملكين.

                                                                                                                                                                                  قوله: ببابل يتعلق بأنزل، أي: في بابل، وهي مدينة بناها نمرود بن كنعان، وينسب إليها السحر والخمر وهي اليوم خراب، وهي أقدم أبنية العراق، وكانت مدينة الكنعانيين وغيرهم، وقيل: إن الضحاك أول من بنى بابل، وقال مؤيد الدولة: وببابل ألقي إبراهيم عليه السلام في النار.

                                                                                                                                                                                  قوله: هاروت وماروت بدل من الملكين أو عطف بيان، وفيهما اختلاف كثير، والأصح أنهما كانا ملكين أنزلا من السماء إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان، وقصتهما مشهورة.

                                                                                                                                                                                  قوله: وما يعلمان وقرئ يعلمان من الإعلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: فتنة، أي: محنة وابتلاء، وقال سنيد: عن حجاج، عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترئ على السحر إلا كافر، وقال النووي: عمل السحر حرام، وهو [ ص: 279 ] من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر.

                                                                                                                                                                                  وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، بل يتحتم قتله كالزنديق، قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين، وفي الفتاوى الصغرى: الساحر لا يستتاب في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف، والزنديق يستتاب عندهما، وعن أبي حنيفة روايتان، وعن أبي حنيفة: إذا أتيت بزنديق استتبته، فإن تاب قبلت توبته.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: واختلف السلف هل يسأل الساحر عن حل من سحره، فأجازه سعيد بن المسيب وكرهه الحسن البصري وقال: لا يعلم ذلك إلا ساحر، ولا يجوز إتيان الساحر; لما روى سفيان، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن ابن مسعود: "من مشى إلى ساحر أو كاهن فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم" وقال الطبري: نهيه - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن إتيان الساحر إنما هو على التصديق له فيما يقول، فأما إذا أتاه لغير ذلك وهو عالم به وبحاله فليس بمنهي عنه ولا عن إتيانه.

                                                                                                                                                                                  وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين، إما لتمييز ما فيه كفر من غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: ولا يفلح الساحر حيث أتى فيه نفي الفلاح وهو الفوز عن الساحر، وليس فيه ما يدل على كفره.

                                                                                                                                                                                  قوله: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون هذا خطاب لكفار قريش يستبعدون كون محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - رسولا لكونه بشرا، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه: أفتأتون السحر أي: أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر.

                                                                                                                                                                                  قوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى أوله: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى يعني يخيل إلى موسى عليه السلام أنها حيات تسعى، وذلك لأنهم لطخوا حبالهم بالزيبق، فلما حميت الشمس اهتزت وتحركت، فظن موسى - صلى الله عليه وسلم - أنها تقصده، احتج بهذا من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة لهم في هذا; لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم أن جميع أنواع السحر كذلك تخييل.

                                                                                                                                                                                  قوله: ومن شر النفاثات قد فسر النفاثات بالسواحر، وهو تفسير الحسن البصري، وأريد به السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر.

                                                                                                                                                                                  قوله: تسحرون أشار به إلى قوله تعالى: سيقولون لله قل فأنى تسحرون أي: كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "تعمون" بضم التاء المثناة من فوق وفتح العين المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وقيل: بسكون العين، وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هذا لا يقوم به الاحتجاج على ما ذكر البخاري في هذه الآيات للاحتجاج على تحريم السحر.

                                                                                                                                                                                  (قلت): السحر على أنواع:

                                                                                                                                                                                  منها: أنه بمعنى لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خدعته واستملته، فكل من استمال شيئا فقد سحره، وفي هذه الآية إشارة إلى هذا النوع.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ما يقع بخداع أو تخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإليه الإشارة بقوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .

                                                                                                                                                                                  الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .

                                                                                                                                                                                  الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها.

                                                                                                                                                                                  الخامس: ما يوجد من الطلسمات.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية